EP52: Scientific Realism الواقعية العلمية

تخيلي انك فتاة في العشرينات من عمرها، سافرتي مع صديقك للدراسة في تيوان. صديقك اللى خدعك وكان بيعمل مع عصابة تيوانية لتهريب الادوية والمخدرات المحذورة، وارسل معاكى حقيبة بها عقار أصطناعي عالي القيمة اسمة CPH4. لم بتوصلي تيوان بتقبض عليك العصابة وبيقتلوا صديقك، ويجبروكي على ابتلاع كيس المخدرات بالقوة انتى وثلاث افراد اخرى علشان تنقلوا الدواء للبيع في أوروبا. العصابة بترسل الافراد الثلاثة الاخرين ويحتجزوكي، احد الخاطفين بيحاول الاعتداء عليكي، وانتى بتقاومية بيركلك في بطنك فبيدمر كيس الدواء اللى في بطنك وبتنساب المخدرات في منظومتك الحيوية. لما بتفوقي من الغيبوبة اللى اصابتك بعد الصدمة، بتشعرى بأحساس غريب، وكأنك على ادراك ووعي بكل شئ حواليكي، قادرة على الاحساس بالذرات، الالكترونات، والموجات، مدركها وكأنها كائنات مرئية بالنسبة لك! .. بتسمعي افكار الخاطفين في عقولهم خارج الزنزانة، بتقدرى تأثرى على أفكارهم، وتتحكمى فى أفكار واحد منهم علشان يدخل الزنزانة، لم بيقترب منك، فأجزاء من الثانية بتلكمية وتفقدية الوعي، قدرتك الجسدية أصبحت ايضا غير عادية. بتخرجي من الحبس، في مستشفي عام بيستخرج الاطباء كيس المخدرات من بطنك، وبيخبروكي ان العقار في الكيس مكون من مادة عادة ما بتستخدم في مساعدة تطوير الاجنة قبل الولادة، ولها آثار جانبية مدمرة، بترجعي لموقع العصابة بتستخدمي قواتك الجسدية الخارقة لقتل أفراد العصابة حتى تصلي لرئيس العصابة، بتسيطري علية وبمجرد لمس جبهتة بتقدرى تشوفي شبكة دماغة العصبية وتقرأى كافة المعلومات المسجلة ما بين النيورونات، بتنتزعي مكان سفر الافراد الثلاثة الاخرين الحاملين للعقار. في شقتك بتبحثى عن حالتك حتى تصلى لعالم وطبيب معروف البروفيسور نورمان له أبحاث متعلقة بمد قدرات المخ البشرى لادراك الواقع بصورة اكبر والتحكم فية، بتتصلى بيه، وتشرحى له قدراتك الجسدية الجديدة وان ابحاثة عن ان البشر لاتستخدم سوى 10% فقط من قدرات مخها حقيقية، لانها بالفعل تشعر بأنها تستخدم اكثر من تلك القدرة الان. وتثبتى لخ من خلال التحكم في أجهزة منزلة الالكترونية عن طريق التحكم في الموجات الكهرومغناطيسية عن بعد! ..بتبدأي في تعقب الافراد الثلاثة الاخرين الحاملين للعقار، بيساعدك ضابط شرطة فرنسي، بتتناولي المزيد من العقار فتزداد قدرات جسدك الخارقة، اصبحت كل خلية قادرة على الاستدامة الذاتية ولاتحتاج باقي الخلايا! جسمك بيتفتت لجزيئات صغيرة لكنك بتتناولي المزيد من العقار اللى بيساعدك على التحكم في جزيئات جسمك واعادة تكوينة مرة أخرى! العصابة بتسبقك للافراد الاخرين، لكنك بتصلى اليهم وبيستعدوا للهجوم عليكي، لكنك بتتحكمي في خلايا جسمهم عن بعد وتشلي حركتهم بقدراتك الغير عادية، وتاخذى باقي العقار منهم! بعد ما بتجمعي العقار بتذهبي لمقابلة البروفيسور نورمان، بتشرحلي حاللتك وقدراتك .. اللى بيخبرك ان الهدف من الحياة هو نقل المعرفة، بداية من الحامض النووى حتى المجتمعات البشرية المتطورة، بتطلبى منة يحقنك بباقي العقار حتى تصلي لحالة تحكم كامل في قدراتك العقلية، بعد ما تأخذى الجرعة الباقية من العقار، بترتفع وظائف الدماغ لديك، يبدأ جسمك في التحول لمادة سوداء وتصبحي قادرة على الاستفادة من جميع أشكال الطاقة المحيطة بيكي، بتقدرى تسافرى في الزمن، وتندمجى مع الكون! لما بيسأل الضابط عن مكانك بترسلي له رسالة نصية على تليفونة “أنا في كل مكان” .

hero_Lucy-2014-1.jpg

محاور

بين عالم البديهة والعلم، الخواص الاولية والثانوية، واقعية البديهة، الواقعية الميتافيزيقية، الواقعية الفكرية، الواقعية اللغوية، نقص الاثبات، البنائية الميتافيزيقية، المُلاءمة التجريبية، الواقع، النماذج، والحقيقة

42-46209404.jpg__800x600_q85_crop.jpg

مهمة العلم هي وصف طبيعة العالم! .. لكن أي عالم هذا؟ .. بكل تأكيد العالم الذي نعيش به ونتفاعل مع كائناته. عالم الالكترونات، المركبات الكيميائية، الجزيئات، الجينات، والمجرات! .. وإن كان العلم صحيحا في تخميناتة وضحدة فإن هذا العالم هو نفسه العالم من الاف السنين عالم الالكترونات، الجزيئات والجينات، بالرغم لم يكن هناك وجود لأحد منا في هذا الوقت ليأكد تلك الفرضية. لكن الالكترون فكرة نشئت نتيجة الطريقة العلمية، نتاج فرضيات، نظريات، تخمينات، ضحد، وتجارب عديدة حدثت في إطار تاريخي محدد. لو رجعت في الزمن عدة قرون الكلمة نفسها لن يوجد لها معنى أو على الأقل لن تعني نفس الشيء .. إذن كيف من الممكن اننا نقول ان العالم كان نفس العامل من الاف السنين؟ .. يبدو ان هناك مشكلة في الطرح ده، لان تلك الصورة من العالم تعتمد على رؤيتنا النظرية عن العالم. الفكرة البسيطة والبديهية لدى البعض في ظاهرها كانت أحد الجدليات الاساسية في العلم على مدار الخمسين عام الماضية، وجذورها أعمق في تاريخ الفلسفة تعود لمئات السنين. بالنسبة للبعض ادعاء أن هناك عالم واحد وصورة واحدة من الواقع أمر بديهي وبسيط ومش محتاج للجدال والنقاش بالمرة. والبعض الآخر  يرى ان نظريتنا تصف صورة مجردة للعالم موجودة بشكل مستقل عن أفكارنا وأنماطنا الإدراكية له فكرة خاطئة او في أقل تقدير ساذجة! .. ايا كانت نتيجة الجدال والنقاش حول طبيعة عمل الطريقة العلمية، سواء كانت الملاحظة المدعومة بالادلة التجريبية، قابلية النفي، النماذج الفكرية والتحولات الثورية، أو غيرها .. الجميع متفق على ان العلم هو أفضل طريقة أنتجها العقل الإنساني لوصف الواقع والتنبؤ بتصرفات الأشياء المُلاحظة في الطبيعة، الكواكب، المجرات، المذنبات، البحار، الاشجار، الحيوانات، الحشرات، وغيرها .. معرفتنا العلمية أحيانا خاطئة، غير مكتملة، و تقريبية. لكنها في العادة الوسيلة الافضل والاكثر استقرارا في قراءة الواقع من حولنا. لكن العلم بيخبرنا أكثر من هذا عن الواقع. العلوم الطبيعية، مثلا الفيزياء اللى استبدلت الفلسفة الطبيعية حملت على عاتقها دراسة بنية الواقع الأساسية وتقدم لنا صورة مفصلة وموحدة عن الكون، وتصف بُنية الأشياء والقوانين الطبيعية التى تتبعها من التركيب الداخلي للذرة، إلى دورة حياة النجوم والمجرات. علوم الاحياء أيضا قدمت وصف دقيق لبُنية منظومات الحياة الطبيعية بداية من الحامض النووى إلى شبكات المخ العصبية بالغة التعقيد. لكن الكائنات أو المفاهيم التي يستخدمها العلم لرسم تلك الصورة المفصلة عن طبيعة الواقع زى الجينات، الإلكترونات، النيرونات، وغيرها من غير الممكن رؤيتها أو مُلاحظتها في الطبيعة على الاقل بدون مساعدة للحواس البشرية. وبالتالي أيا كانت الطريقة العلمية المستخدمة لصياغة وتكوين تلك الفرضيات، لابد لنا وان نتساءل إن كان من المفروض ان نعتقد في المعرفة العلمية المكتسبة عن الواقع عندما تتعلق بمفاهيم، كائنات، وظواهر لا يمكن ملاحظتها مباشرة؟ .. بصورة مبسطة غير مخلة الواقعية العلمية Scientific Realism هى رؤية معرفية تنظيمة تدعونا للأعتقاد في وجود الكائنات الغير قابلة للملاحظة المطروحة داخل عباءة المعرفة العلمية. وبالتالي إن كنت تعتقد أو تصدق في وجود الإلكترونات، الذرات، الفيروسات، الخ .. انت تعتنق رؤية علمية واقعية، او باصطلاح فلسفى انت من الواقعيين Realists!  .. الواقعيين او المدافعين عن الواقعية العلمية يدافعون ايضا عن عقلانية التغيير في النظريات العلمية النسبيين Relativists. كثير من أعداء المدرسة الواقعية antirealists  او اللاواقعيين في تاريخ الفلسفة بيتفقوا مع الواقعيين في أن العلم نموذج للبحث العقلاني عن المعرفة، وأنه أنتج كم كبير من المعرفة التجريبية المتراكمة. وبالتالي الخلاف ليس حول عقلانية العلم او ان كانت المعرفة نتاج بحث عقلي تجريبي. اذن ما هو الخلاف على وجهة التحديد؟ ..  ولو كانت الكائنات والظواهر الغير مُلاحظة داخل المعرفة العلمية ليس لها وجود في الواقع، ماذا يقوم العلماء باختبارة في المعامل؟ .. اليس هذا هو جوهر التجريبية؟ .. والتطبيقات القائمة على النظريات العلمية اليست قائمة على فرضية وجود تلك الكائنات والظواهر في الواقع؟ .. موجات الراديو اللى بتنقل الارسال؟ .. هل هناك فعلا اى مجال للشك العقلاني في ان الذرات مثلا لها وجود؟ haemoglobin-in-red-blood-cell-john-bavosi.jpgخصوصا عندما توجود فروع عديدة من العلوم، والاف من العلماء العاملين في اماكن وازمنة مختلفة يصفوا طبيعتها، تصرفتها، وعلاقتها ببعضها البعض، ويستخدمونها في تفسير خواص العديد من الاشياء المُلاحظة من الضوء في لمبة النيون الى الطريقى التى يستخدمها  الهيموجلوبين haemoglobin في خلايا الدم الحمراء لأمتصاص الاكسجين من الرئة! .. لكن حتى وان قررنا الان ان الذرات لها وجود ومن الممكن مُلاحظتها، نفس المشكلة ستواجهنا عندما نصف الكائنات المكونة للذرة، وهكذا.  لكن في الواقع العلماء في الماضى ادعوا وجود كائنات غير مُلاحظة في الطبيعة واقموا النظريات والفرضيات حولها لكن هذة الكائنات ليس لها مكان او وجود الان في افضل نظريتنا العلمية .. بالتالي لماذا يجب ان نعتقد في انهم محقين الان في فرضياتهم؟ .. أسئلة شائكة بتجعل من الصعب اعتناق رؤية علمية واقعية سطحية دون وضع اطار فكرى للتعامل معها.

بين عالم البديهة والعلم Between World of Intuition and Science

xintuition-and-science.jpg,qitok=osl5RP5A.pagespeed.ic.CYFQP79hh9.jpg

هناك عالمين، عالم مُدرك بالحواس، عالم الظاهر والمحسوس، عالم البديهة .. و عالم آخر من الذرات، الإلكترونات، الموجات، الجينات، والفوتونات .. عالم العلم. العلم يدعي ان عالم البديهة مجرد وهم، خدعة أو على الاقل ليس كما يبدو في الظاهر. ومع بدايات القرن العشرين، الفيزياء الطبيعية ابتدعت تدريجيا عن عال البديهة وأصبحت تصف عالم من المجردات الغير بديهة او مدركة بشكل مباشر. بالتحديد النظرية النسبية relativity theory وميكانيكا الكم quantum mechanics جعلت التصور والمفهوم العلمي للفضاء، الزمان، وطبيعة المادة بعيد تماما عن التجارب اليومية للبشر. ولو حاولت دراسة او فهم مكونات اى شئ بسيط حولك الان من منظور علمي زى مثلا الكرسي اللى انت قاعد علية دلوقتي، هتحتاج للعديد من النظريات العلمية والمعادلات الرياضية المعقدة. وتقريبا من المستحيل فهم العوالم متعددة الابعاد للنظرية الكمية او نظرية الاوتار بدون مستويات معقدة من الرياضيات اللى اصبح مقصور فهمها على جماعات معينة من البشر. وبالرغم من ان هناك تصورين لشئ بسيط زى الكرسي ..التصور اليومي البديهي للبشر، والتصور العلمي. الا ان الكائنات المجردة  المطروحة من قبل العلم Hydrogen_Density_Plots.pngزى الشحنات الكهربائية مثلا لايوجد مايقابلها في التصور اليومي البديهي عند كل البشر. اللى بيطرح تساؤل مهم هل فعلا كلا من التصورين له وجود حقيقي؟ وماهي العلاقة بين التصور البديهي الظاهر والتصور العلمي؟ .. علشان نقدر نجاوب على التساؤلات دى لابد وان نعود لدراسة الثورة العلمية في عصر النهضة الذي شكل روادها الرؤية العلمية الحديثة ومهدوا فيها الطريق امام الخواص الأولية primary  والثانوية secondary  للأشياء. الثورة العلمية تميزت بتأكيد فكرة التجريبية واستخدام الطرق الحديثة والمبتكرة زى التلسكوب و الميكروسكوب للبحث في أعماق الطبيعة، و تخلت بشكل أساسي عن التصنيفات النوعية qualitative description للطبيعة اللى كانت سائدة في العلوم الارسطوطالية القديمة مثلا الافيون صنف على انه يمتلك فضيلة النوم! .. واستبدلت بتصنيفات كمية quantitative descriptions للخواص الطبيعية، فمثلا أصبح الشئ او الكائن بيمتلك كمية من المادة (الكتلة) بدلا ما يتم تصنيفه نوعيا طبقا لثقلة لأنواع من الكائنات الثقيلة، الخفيفة، والمتوسطة الخ. وتم ايضا التخلي عن البحث عن الأسباب النهائية final causes او الخاصية الغائية  teleology في العلم الارسطوطالي وبدلا من هذا تم التركيز على الاسباب المادية الفعالة efficient causes. وبالتالي تحولت رؤية العلم من معرفة أولية مسبقة  a priori knowledge أو حقائق ضرورية كما تصور علماء الحقبة الارسطوطالية الا عملية تجريبية إستكشافية تولد معرفة على المنطق والظواهر الطبيعية المتاحة a posteriori. الرؤية اللى وظفها العديد من الفلاسفة، المفكرين والعلماء في تلك الحقبة كان تصوير الطبيعية كآلة عمل زمنية عملاقة، تعمل أجزائها في تناغم مع بعضها البعض، ليس لانها منسقة بحركات طبيعية غامضة مسبقة او بسبب أسباب او غايات نهائية، لكن لان الاجزاء تتواصل مع بعضها البعض من خلال الاتصال والتلامس، ترس هنا يتحرك فيحرك ترس هناك وهكذا. وبدأ العلماء في طرح إمكانية تفسر سلوك الاشياء من خلال حركة الاجزاء المكونة لها، بدلا من القوى الغامضة او جوهرها! .. الميكانيكا في ايد جاليليو، ديكارت، ونيوتين بالتحديد اصبحت علم يصف حركة المادة بدقة رياضية عالية، وما قد يحدث عند تصادم جزيئات المادة، وكلهم St-thomas-aquinas2.jpgاعتنقوا مبدأ القصور الذاتي principle of inertia ، اللى بينص على ان الجسم يستمر في حالة من الحركة، الا اذا أثرت علية قوة ما، وبالتالي التغير في الحركة فقط يتطلب التفسير. نظرية نيوتن للجاذبية كانت مشكلة لأن نيوتن لم يقدم تفسير لكيفية انتقال قوة الجاذبية بين الاجسام المنفصلة عن بعضها في الفضاء، وكأن الجاذبية كانت مثال على نوع جديد من العلاقات بين الكائنات، فيها يحدث تأثير عن بعد بدون أتصال، الفكرة اللى كان الفلاسفة بيحاولوا تجنبها. لكن قانون الجاذبية اللى أقترحة نيوتن وقتها كان على الاقل دقيق من الناحية الرياضية، و مع مرور الوقت اصبحت الميكانيكا النيوتينية ناجحة تجريبيا بشكل لايصدق! .. فكرة الطبيعة الغامضة لقوى التجاذب بين الكائنات بدون تلامس او أتصال لم تقف حائل أمام نظرية نيوتن وتبناها عدد كبير من فلاسفة المادية الطبيعية، ومع مرور الوقت تم قبولها من قبل كافة الجهات والمؤسسات العلمية. على أى حال، نيوتن نفسه كان يأمل ان في يوم من الايام يتم تقديم تفسير ميكانيكى من خلال الاتصال والتماس لقوى الجاذبية، حتى يمكن وصف كل قوى وظواهر الطبيعة ميكانيكيا. المادية Materialism هي فكرة ان هناك صورة واحدة فقط من المادة، وهى المادة الفيزيائية الطبيعية ولاتوجد صور أخرى غير مادية زى الروح أو العقل مثلا، فالعقل ماهو الا نتاج الحركة في المادة .. الرؤية المادية كانت رائجة وشائعة جدا في بدايات الثورة العلمية، وبدأت برامج بحث علمية في محاولة تفسير التركيب البشري والسلوكيات البشرية من خلال الفيزياء والكيمياء ويمكن كان احد أهم النجاحات المبكرة تفسير آلية علم القلب البشرى كمضخة وتفسير عمل الدورة الدموية من خلال تحليل كمية تدفق الدم على يد العالم الإنجليزي ويليام هارفي. الفيلسوف الانجيلزى جون لوك Locke  استخدم مثال الساعة لتفسير الصورة الظاهرية والعلمية للكائنات، في الساعة هناك عقارب بتتحرك بطريقة منسقة وكل ساعة تنسجم معاها دقات الساعة وهكذا، الصورة الظاهرية للساعة لكنها لا تفسر التركيب الداخلي او الصورة الداخلية لكيفية دوران العقارب وانسجام دقات الساعة مع دورانها! . بصورة أخرى هناك خصائص خارجية من الممكن ملاحظتها للكائنات مثلا الزجاج مظهره الخارجي شفاف ويمكن الرؤية من خلالة، لكن هناك تركيب داخلي لجزيائاتة أكسبة هذا المظهر الشفاف. ويبدو ان النجاح الضخم اللى حققة العلم منذ زمن جون لوك كان قائم بشكل أساسي على تطوير اجهزة مساعدة للحواس البشرية لادراك طبيعة الاشياء بشكل أفضل .. قياس أدق لظواهر من الممكن ادراكها بالحواس البشرية مثل الكتلة، أو قياس لخواص نوعية لايمكن ادراكها بالحواس البشرية مثل القدرات الكهربائية. وتدريجا تطورت العلوم ليقل اعتمادها على الحواس كوسيلة لجمع البيانات، مثلا في الكيمياء تصنيف المواد طبقا للون والرائحة استبدل تدريجيا لقياسات مثل مؤشر الانكسار PeriodicTableWorks.jpgrefractive index، العدد الذري  atomic number، قابلية التأيين  ionisation Potentials الخ .. كل هذا كان تحقيق لطموح العلماء والفلاسفة لتحقيق معرفة موضوعية من خلال البحث العلمي من خلال أستبعاد نسبية وذاتية العامل البشري. وبالتالي كانت فكرة الخواص الأساسية او الاولية primary properties للكائنات هى تلك الخواص المشتركة بين الصورة الظاهرية والداخلية للكائن، لكن الخواص الثانوية  Secondary properties هى تلك الخواص التى يبدو ظاهريا ان الكائن يمتلكها، لكنها مجرد تلقي في ذهن المراقب فقط، والكائن في الحقيقة لايمتلك تلك الخواص. هناك عدد كيبر من الحُجج طرح لإثبات التمييز بين نوعي الخواص، وهناك العديد من الحُجج تظهر انه ليس لدينا طريقة كبدئية للفصل في الادعائات المتضادة حول الخصائق التى تمتلكها الاشياء والكائنات. معظمنا يميل الى الرؤية الذاتية وتباين كيف نبدو الاشياء بشكل مختلف للأفراد في الظروف المختلفة. لو كان لون وشكل طاولة ما مثلا بيختلف بناء على الاضاءة وزواية المراقب، من يستطيع ان يجزم بشكل ولون الطاولة الحقيقي؟! .. في الحقيقة فلاسفة اليونان القديمة قدموا عدد كبير من الجدليات والحجج على الفكرة دى. لكن جورج بيركلي Berkeley طرح تجربة جيدة بتلخص الفكرة ببساطة، لو فرضت ان قدام ثلاث اكواب من الماء الساخن، البارد، ودرجة حرارة الغرفة، لو وضعت يدك في الماء الساخن اولا ثم في الماء على درجة حرارة الغرفة ستشعر بانة بارد .. وان وضعت يدك في الماء البارد اولا ثم في الماء على درجة حرارة الغرفة ستشعر بانة دافئ .. اذن يبدو ان الدفء اللى شعرت بة ليس خاصية في الماء الذى على درجة حرارة الغرفة! .. وبنفس الصورة يبدو ان العلم يبخبرنا ان رؤية الالوان هي نتاج عملية معقدة من انكسار الضوء وان الالوان لاتتوافق مع الخواص الاساسية او الاولية للكائنات.

الخواص الاولية والثانوية Primary and Secondary Properties

DSCN4622.jpg

في الحقيقة التمييز بين الخواص الاولية والثانوية قديم وبتعود جذورة على الأقل لفلاسفة الذرية atomists في اليونان القديمة، اللى اعتقدوا ان الاشياء لها صور ظاهرة فقط، فقد تبدو حلوة المذاق، باردة، او مُبهجة،الخ لكنها ليست خواص الاشياء الحقيقية. وجادلوا ان الخواص الحقيقة للأشياء والكائنات هى خواص الذرات او الجزيئات الاولية التى يتركب منها الشئ، بالاضافة لبعض الخواص الاولية الناتجة عن ترتيب ذرات الشئ بشكل معين. بنفس الصورة في القرن السابع عشر، العديد من أنصار فلسفة ميكانيكية الطبيعة زى جون لوك Locke  ، روبرت بويل Robert Boyle، ونيوتن Newton جادلوا ان الخواص الاولية للأشياء هى تلك الخواص التى تمتلكها الاجسام والجسيمات المؤلفة للشئ، في حين ان الخواص الثانوية هى تلك الخواص الناتجة عن ترتيب تلك الجسيمات بصورة معينة لتكوين الشئ بالاضافة للمبادئ النيوتينية بان كل الاجسام لها شكل و موضع واما في حالة حركة او ثبات. والاجماع العام بين العلماء كان ان مهمة العلم هى التركيز على الخواص الاولية من أجل ان يشرح لنا كيف تتكون الصورة الظاهرية للأشياء. جون لوك ميز بين جوهر الشئ الحقيقي والظاهر. الجوهر الظاهر او الاسمي nominal essence لعنصر مثل الذهب هو الفكرة العامة المجردة للذهب لدينا، مثلا لونة أصفر، ثقيل، مرن، قد 220px-GodfreyKneller-IsaacNewton-1689.jpgيذوب في بعض الأحماض، يلمع، الخ .. وبالتالي الجوهر الاسمي يعتمد على الصورة التى يظهر بها الذهب لدينا، لكن بالطبع هناك أشياء أخرى لها نفس مظهر الذهب او الجوهر الاسمي، مثلا البيريت pyrites احد انواع المعادن الكبريتيدية وتشتهر باسم الذهب الكاذب لتطابقها في اللون والشكل تقريبا مع الذهب! .. وفي بعض الاحيان قد لايتوافق الذهب مع صورتة الاسمية مثلا عندما يكون على حالة الانصهار، وبالتالي المميز للذهب الحقيقي عن الذهب الكاذب هو جوهر الذهب الحقيقي وليس الجوهر الظاهر. فجوهر الشئ الحقيقي هو طبيعتة الداخلية الغير متغيرة بتغير صورتة وشكلة. جون لوك لم ير أى دليل على ان العلماء في أيامة من الممكن وصفهم بانهم على دراية او معرفة بالجوهر الحقيقي للأشياء. لكن مع ذلك لوك أعتقد ان هناك جانب واقعي للاراء العلمية حول الجوهر الواقعي للأشياء، وان الجوهر الواقعي سينتهي لكونة التركيبات المجهرية للأشياء، الامر اللى تحقق في بعض الحالات مع تقدم العلم مثلا في حالة الذهب او العناصر الاخرى اصبحنا على دراية بان جوهرة الحقيقة هو نواة ذرية تتكون من 79 بروتون. لكن لأى درجة بيعتمد الجوهر الاسمي للشئ على العوامل البيئية المحيطة وطبيعة الكائن. مثلا هل سيحتفظ الذهب بلونة في الظلام؟ .. او لو قطعنا الذهب لقطع صغيرة جدا هل سيحتفظ بجوهرة الاسمي؟ .. في الحقيقة بالرغم من انه سيبقي ذهبا الا انه لايبدو كالذهب … لكن لوك اعتقد ان اجزاء الذهب ستحتفظ بكتلتها، خواصها المكانية، وكل شئ سينطبق عليها سواء كانت في الظلام ام لا .. اى ان لوك بيجادل ان لون الذهب الذى نراة عند النظر له ليس له علاقة باى شئ في الكائن، الذهب فقط قادر على تحقيق جوهرة الاسمي او الصورة التى يبدو عليها تحت ظروف وشروط بيئية معينة.  أما الخصائص الاولية موجودة في الكائنات سواء ادركناها أم لا، لكن الخواص الثانوية لاوجود لها ان لم ندركها، وبالتالي بصورة ما بالرغم من ان الذهب له خاصية الاصفرار، الا ان تلك الخاصية ليس الا قدرتة على انتاج احساس معين عند المُلاحظ لكن ليس نتيجة وجود الاصفرار فية. بعض الافكار التى لدينا عن خواص الكائنات، مثل الطول، الحجم، الخ تطابق خاصية في الكائن تسبب ادراكنا لتلك الخاصية، هذة هى الخواص الاولية، لكن الجسيمات اللى بتكون مثلا الذهب لونها ليس أصفر او لامعة. تجربتنا الادراكية لتلك الخواص ناتجة عن طبيعة تركيب وترتيب وحركة جزيئتها. وبالتالي فكرة الاصفرار لانحصل عليها من اى شئ موجود في جسيمات الذهب نفسها وبالتالي تصبح تلك الخواص ثانوية واقل دقة من الخواص الاولية. ونتيجة لحقيقة الخواص الاولية لابد وان تكون قابلة للقياس وبالتحديد القياس الكمي كالكتلة، الحكم، السرعة، او على الاقل من الممكن حسابها من خلال كميات أخرى مثل الكثافة (الكتلة مقسومة على الحجم). في القرن السابع عشر، الطريقة الكمية الجديدة التى اعتمدها العلم في وصف العالم قامت على الهندسة لتمثيل حركة المادة في الفضاء. وتقريبا كل خواص الاشياء التى كان يعتقد انها اساسية خلال الثورة 08f162d1-6943-490b-8e0b-ee6fd5ab256e-a48bae6a475f.smallالعلمية زى الحركة، الحجم، الخ كان من الممكن تمثيلها هندسيا، وحساب التفاضل والتكامل Calculus اللى قدمة نيوتن مكنة من حساب السرعة والتسارع velocity and acceleration هندسيا. اذن العالم له صورتين ظاهرة وباطنة نتيجة لوجود خواص أولية وثانوية للأشياء والكائنات، والعلم أصبح عملية البحث العقلي التجريبي عن طبيعة الكائنات الباطنة. وخواص الكائنات الثانوية ناتجة عن تركيب وترتيب وحركة الاجسام المجهرية المكونة لها. وبالتالي الخواص الثانوية تعتمد على ظروف البيئة وطبيعة المُلاحظ لانتاج تجربة حسية معينة نسبية عند المُلاحظ، فيبدو الذهب لونة أصفر تحت ظروف الضوء الطبيعي عند معظم البشر لتماثل ادوات التلقي والملاحظة البشرية عن البشر. لكن بمجرد تبني فكرة الخواص الاولية والثانوية لابد وان نفسر العلاقة ما بين تجربتنا الشخصية للأشياء وخواصها الاولية، وكيف يمكن معرفة الخواص الاولية للأشياء؟ وان تنازلنا عند الكثير من معرفتنا النسبية الذاتية المكتسبة من خلال الحواس عن الاشياء لانها غير متسقة مع خواص الاشياء الاولية الحقيقية، كيف يمكن ا التأكد من أن تلك الخواص الاولية هي فعلا حقيقة الاشياء وليس هناك مستوى أخر أكثر أولية من الخواص؟!

واقعية البديهة Common-Sense Realism

Naive_realism

كيف من يمكن صياغة نظرية الواقعية العلمية   scientific realism؟ .. احدى الطرق هو رؤيتعا كصورة تأكيدية للواقع كما تصفة أفضل نظرياته العلمية. بمعنى ان هناك وجود حقيقي للألكترونات، العناصر الكيميائية، الجينات، وغيرها. العالم كما يصفة العلم هو العالم الحقيقي . لكن هناك صورة اخرى تعتقد ان من الخطأ ان نعبر عن الواقعية العلمية كرؤية فلسفية تعتمد على دقة وصحة نظريتنا العلمية الحالية، لان لو تغيرت نظريتنا العلمية في المستقبل او اثبت انها غير صحيحة الامر الجائز جدا في العلم تصبح رؤيتنا الواقعية غير صحيحة بالضرورة! .. الرؤية دى عبر عنها فيلسوف العلم الأمريكي-الهولندي المعاصر باس فان فراسين Bas van Fraassen .. اذن هل لابد وان نقلق حيال افضل نظريتنا العلمية الحالية واحتمالية ان تكون خاطئة في المستقبل؟ .. الفيلسوف الاسترالي المعاصر مايكل ديفيت Michael Devitt أعتقد طالما اننا لم نلتزم بواقعية الافكار والتخمينات العلمية المبدئية او CUNY-Devitt.pngالغير مؤكدة بتراكم الادلة ونجت من عديد من محاولات النفي لايوجد شئ نقلق حياله. لكن البعض الآخر شاف ان الثقة دى تظهر اهمال لتاريخ العلم، لان لابد وأننا نأخذ بجدية فكرة ان نظريات علمية مستقرة حاليا قد تتعرض لمشاكل حقيقة وقابلية نفي قوية في المستقبل. كيف نقرر اذن درجة الثقة في النظريات العلمية الحالية؟ .. الاقتراح الارجح و الرائج بين فلاسفة العلم ان لابد وان نفضل هذا السؤال عن سؤال الواقعية العلمية. موقف فيلسوف الواقعية العلمية متوافق مع صور متنوعة ومختلفة حول استقرار أفضل نظرياتنا العلمية  .. اى ان صياغتنا للرؤية واقعية علمية لابد وان يتم التعبير عنها حول مؤسسة العلم بشكل عام وليس حول نظريات محددة. لكن أحد التعقيدات بيظهر مع سؤال هل فيلسوف الواقعية العلمية لابد ايضا وان يكون واقعي حيال البديهة  common-sense realist ؟  .. نظريا العلم قد يخبرنا ان واقعية البديهة خاطئة .. ماتستغربش! .. المعضلة دى ظهرت بقوة مع ظهور ميكانيكا الكم quantum mechanics أحد اهم واكثر النظريات جوهرية في الفيزياء الحديثة. طبقا لميكانيكا الكم، الحالة الكائن عليها اى نظام فيزيائي يمكن تحديدها جزئيا من خلال القياس، اى ان هناك بعض حالات المنظومة غير قابلة للقياس! .. بعض قراءات ميكانيكا الكم بتشوف ان الفكرة دى بتسبب معضلة لفكرة واقعية البديهة او ان العلاقة بين البديهي بالنسبة للبشر والكائن في الواقع قد يكون خاطئ. لكن للدقة العلمية القراءات دى لميكانيكا الكم مازال حولها خلاف علمي كبير! ..على اى حال ان تم الاتفاق حول تلك القراءات او رفضها، يبقي السؤال قائم ..  هل يمكن ان نسمح لامكانية ان العلم يتعارض مع واقعية البديهة؟! .. لو قلنا ان الواقعية العلمية بتشتمل ضمنا على واقعية البديهة، يبدو وكأننا بنتمسك بصورة الواقع اليومية كما ندركها بغض النظر عن ما سيقررة العلم. لكن لو فصلنا الواقعية العلمية عن واقعية البديهة بيصبح من الصعب ادعاء ان كيف يصف العلم العالم الحقيقى؟! .. قد يكون مفتاح الخروج من تلك المعضلة هو تعديل واقعية البديهة كي تقبل علاقات غير متوقعة وغير منطقية بين الفكر والواقع بشكل عام. واقعية البديهة تسمح بامكانية الاتصال السببي ما بين الافكار والواقع. لكن من الصعب عادة تحديد ان كانت الاتصالات المدعاة من قبل العلم سببية ام لا، بالتالي قد يكون من الافضل توسيع نطاق العلاقات ما بين الافكار والعالم الخارجي بصورة تقبلها الواقعية، وبالتالي العلم قد يضيف حالات جديدة، لكن بما اننا نوسع نطاق واقعية البديهة كي تكون اكثر مرونة في الاستجابة للعلم واطروحاتة، تلك الصورة تصبح واقعة البديهة المعدلة Common-sense Realism Naturalized نحن جميعًا نعيش واقعًا مشتركًا ، له هيكل قائم بشكل مستقل عما يفكر فيه الناس وما يقولونه حوله ، باستثناء ما يتألف الواقع من الأفكار والنظريات والرموز الأخرى ، وفيما عدا أن الواقع يعتمد على الأفكار والنظريات ، وغيرها من الرموز التي قد يكتشفها العلم .. هذا التعديل سيسمح لنا بضم واقعية البديهة كجزء من الواقعية العلمية وبالتالي الواقعية العلمية تصبح (1) واقعية البديهة المعدلة (2) أحد أهم أهداف العلم هو اعطائنا وصف دقيق للصورة الكائن عليها الواقع، بما في ذلك مكونات الواقع الغير قابلة للمُلاحظة! .. يبقي التساؤل ما هي درجة الثقة في نظرياتنا العلمية الحالية بما نعرفه من التغيرات الجذرية في تاريخ العلم؟  .. لكن لابد وأن ندرك أن هذا السؤال لن يتم الاجابة عنه تماما بناء على تاريخ العلم، من الجائز ان يكون لدينا أسباب مقنعة ان طرقنا في صياغة النظريات والتأكد منها قد تتحسن في المستقبل، لكن التاريخ بكل تأكيد سيقدم على الاقل سيقدم بيانات مهمة في الإجابة على هذا التساؤل. من الجائز ايضا ان نكون درجات مختلفة من الثقة في مجالات العلم المختلفة، الفيلسوف الايرليندى download (2).jpgارنان  ماكملين Ernan McMullin جادل اننا لانأخذ الفيزياء المتعلقة بهيكل وبنية الواقع على انها نموذج لباقي مجالات البحث العلمي. الفيزياء الطبيعية هى المجال اللى بنتعامل فيه مع معظم الكائنات الغير مُلاحظة البعيد عن ادراكنا، وعادة ما نجد نفسنا امام معادلات، نظريات، وتركيبات رياضية معقدة من الصعب فهمها. وبالتالي من المبرر اننا نكون حذرين في قبولنا وتصديقنا في تلك الاطروحات. ماكملين والفيلسوف الانجليزي المعاصر جون  ورال John Worrall  طورا فكرة ان الثقة التى لابد وان نكونها في الفيزياء الاساسية والكائنات المجهرية او الغير ملاحظة التى تطرحها لابد وان نثق فيها طبقا لثقتنا في المعادلات والنماذج الرياضية المثبتة من خلالها. لكن كل العوامل دى اللى بنطبقها على الفيزياء الأساسية لاتنطبق على البيولوجيا الجزيئية molecular biology مثلا .. لان في هذا المجال احنا بنتعامل مع كائنات بعيدة تماما عن المستويات المجهرية دى .. كائنات من الممكن ان نصل الي ملاحظتها من خلال طرق مساعدة عديدة. ده بالاضافة اننا لانجد انفسنا عادة امام تكوينات ومعادلات رياضية معقدة علشان نقدر نفهم الأفكار المطروحة. ده غير ان تاريخ المجال نفسه بيدعم فكرة ان المعرفة داخل علم الاحياء الجزيئية معرفة تراكمية اكثر منها انقلابية وبتبنى فوق بعضها البعض لتفسير عمليات الحياة. وبالتالي انطباعنا عن الأفكار والنظريات العلمية المطروحة داخل الأحياء مثلا ليس بالضرورة مثل انطباعنا عن الأفكار المطروحة في الفيزياء النظرية!

الواقعية الميتافيزيقية Metaphysical Realism

wave-3488466_960_720.jpeg

 

النقاش حول الواقعية العلمية وثيق الارتباط بقضية عامة وهي معرفتنا بالعالم الخارجي خلال تاريخ الفلسفة. الواقعية الميتافيزيقية Metaphysical realism رؤية فلسفية بتُنظر لان اللغة العادية اللى بنستخدمها تشير في بعض الاحيان لأشياء وكائنات لها وجود حقيقي في الواقع بشكل مستقل عن عقلنا. حتى وان انعدم وجودنا تماما ولم يبصرها احد مازال هناك وجود لتلك الكائنات، لكن الواقعية العلمية تنطوي على التزام ميتافيزيقي بوجود كائنات أخرى لا يمكن ادراكها بالحواس البشرية زى الالكترونات، الجينات، الفوتونات، الخ. الافكار الميتافيزيقية الوجودية دى ناقشناها بتفصيل كبير في حلقات سلسلة فلسفة ماوراء الطبيعة، وزى ما شفنا وقتها النقد الكبير اللى كان بيواجهة الاسئلة الوجودية اللى من النوع ده هو ان المشروع التشكيكي في معرفتنا سيقود اللى التشكيك في معرفة مدركة من خلال الحواس! .. لكن المشكلة الفلسفية الحقيقة ليست ان كانت الالكترونات او الاشجار لهم وجود .. لكن كيف نفسر معرفتنا بوجودهم وطبيعتهم؟ ..  وفي واقع الامر المشكلة تتعقد مع الواقعية العلمية بسبب صعوبة توفيق المعرفة المكتسبة من خلال الحواس مع المعرفة التجريبية المكتسبة من خلال الطريقة العلمية. معرفتنا عن العالم مكتسبة من خلال حواسنا، أنا مدرك لفنجان القهوة اللى قدامي دلوقتي، لاني قادر على رؤيتة، ولمسة وبالتالي كونت معرفة عن وجودة في موقع مكاني ما ولحظة زمنية محددة. الرؤية البسيطة دى عادة ما بيطلق عليها الواقعية المباشرة Direct Realism الكائنات الخارجية توجد في استقلالية عن عقولنا ومن الممكن ادراكها من خلال حواسنا. لكن زى ماشفنا منذ قليل ان خواص الكائنات المدركة بتعتمد على الطريقة اللى بتعمل بها حواس ادراكنا والظروف البيئية المحيطة، وبالتالي الكثير من الفلاسفة اعتمدوا على الحجة دى للجدال اننا لاندرك الكائنات على صورتها الحقيقية، اى لاندركها بصورة مباشرة لكن بدلا من ذلك Realism.pngتمثيلات عقلية ينتجها عقلنا. مثلا فنجان القهوة مع انعكاس ضوء أحمر ضعيف ورؤيتة من زواية معينة قد يبدو مربع الشكل ولونه أحمر، بالرغم من انه في الحقيقة لونة ابيض ودائرى الشكل وبالتالي بيفسر لة الكائنات قد تبدو مختلفة للأفراد الملاحظين تحت ظروف بيئية مختلفة .. حجة أخرى ضد فكرة الواقعية المباشرة هى الحجة من الوهم مثلا فكر في عصا مستقيمة تبدو مكسورة داخل وعاء ماء، العصا نفسها مش مكسورة، لكنها مكسورة في عقلك .. وبالتالي اللى نراة ليس الواقع لكن صورة او فكرة عن الواقع .. الحجج دى وغيرها بتشير لفكرة وجود قابلية للخطأ في الادرك! .. الجدلية الاخرى ضد فكرة الواقعية المباشرة تبلورت مع التقدم العلمي و فهمنا لعملية الإبصار وكيفية عمل الحواس . على سبيل المثال احنا عارفين ان الضوء اما يشع من الكائنات او ينعكس عليها وبالتالى نصبح قادرين على رؤيتها، الضوء يسافر في الفضاء ويؤثر على شبكية اعينا، الضوئ المنعكس على شبكية ينشط خلايا معينة ترسل نبضات كهربائية لعصب الرؤية في المخ، كل ده بيحدث مع مرور لحظات زمنية ما بين اشعاع او انعكاس الضوء من الكائن حتى يدركة المخ، الامر اللى بيقترح اننا نرى الكائن في الماضى وبالتالي لايمكن ان يكون ادراك مباشر. أيضا في حلقان فلسفة العلم السابقة، ناقشنا فكرة المُلاحظة المحملة بالنظرية Theory-Laden Observation الابحاث العلمية والتجريبية الاخيرة بتقترح ان ما يمكنا رؤيتة في أقل تقدير هو عملية تركيبية من صنع المخ وليس مجرد صورة منعكسة على الشبكية. على سبيل المثال أحد التجارب المعملية تم اعطاء نظارات للأفراد تحت الاختبار تجعلهم يروا الكائنات مقلوبة، في البداية الرؤية كانت عسيرة على الافراد، لكن مع مرور الوقت المخ أصبح قادر على التكيف وأصبح قادر على رؤية الكائنات بصورة صحيحة بالرغم من أن النظارات تجعل الصورة مقلوبة، وان تم خلع النظارات، يجد الأفراد صعوبة في رؤية العالم بشكل صحيح، إلى أن يعود مخهم مرة أخرى للتكيف مع الرؤية الطبيعية.

الواقعية الفكرية Ideaism

190450-131-527BAEF7

الرؤية المضادة للواقعية المباشرة هي الفكرية Ideaism  الموقف الفلسفي اللى بيرد كل ظواهر الوجود إلي الفكر أو العقل، العقل منطلق الوجود والحقيقة، نحن لاندرك الاشياء الخارجية بشكل مباشر لكن عقلنا يكون أفكار او تمثيلات للأشياء والكائنات في الواقع. دى الفكرة اللى اعتنقها فلاسفة التجريبية الانجليز من أمثال لوك، بيركلي، وهيوم، اللى طبقا لهم العقل غير مدرك بشكل مباشر للكائنات في الواقع، لكن لأفكار وانطباعات عن تلك الكائنات. نفس الفكرة اللى اعتنقها فيلسوف القرن العشرين ألفريد آير  Alfred Ayer اللى جادل ان الفرد من الممكن ان يدرك فقط ماهو داخلى بالنسبة له او التمثيلات العقلية الوسيطة لتجارب الحياة، الفكرة اللى اطلق 108679-004-958B6417عليها فلاسفة القرن العشرين بيانات الحواس Sense-Data .. فلاسفة التجريبية فرقوا بين نوعين من التمثيلات العقلية الوسيطة في العقل. الانطباعات impressions اللى العقل مجبر على تكوينها بناء على الحواس، لما انطباع اللون الاحمر بيكونة العقل عن طريق الحواس، لكن النوع الاخر من الانطباعات هو الأفكار، فكرة اللون الأحمر هى الصورة العقلية التي من الممكن أن يستدعيها الفرد بحرية تامة في أي وقت في عقلة، الفكرة دى نسخة من انطباع اللون الاحمر اللى كونة سابقا عند رؤية اللون الأحمر. او مثلا انطباع الغضب  هو تمثيل عقلي وسيط بيتكون عند الفرد عند الشعور بالغضب، لكن فكرة الغضب هى نسخة عقلية من نفس الانطباع عندما نفكر في الغضب. المدرسة الفكرية تتناقض مع الواقعية المباشرة، لكن ليس معنى هذا عدم وجود أشياء خارجية في الواقع. الفكرية فرضية حول طبيعة الادراك وليست فرضية ميتافيزيقية حول ما يوجد في الواقع. وبالتالي الفكرية متوافقة مع الواقعية الميتافيزيقية metaphysical realism  ولو كانت الفكرية صحيحة إذن نحن ندرك فقط انطباعات وأفكار، ويصبح السؤال ما هي العلاقة ما بين الكائنات في العالم الخارجى والانطباعات المتكونة في عقولنا عنها؟ … الاجابة البسيطة هو أن الانطباعات سببها الكائنات الخارجية. الانطباعات هى الكائنات الوسيطة الناتجة من تجربتنا المباشرة وتقف وسيط او حائل ما بينا وبين العالم الخارجي وخواصة الأولية. الاطروحة دى عادة مايطلق عليها الواقعية الغير مباشرة أو السببية Causal Realism وتناقض الواقعية المباشرة اللى بتقول ان هناك وجود لكائناتperception-representationalism1 خارجية مستقلة عن عقولنا، تسبب إدراك غير مباشر عن طريق الحواس. الاطروحة دى اعتنقها جون لوك ودمجها مع فكرة الخواص الاولية والثانوية وفكرة التركيب الجزئي المجهرى للكائنات. لكن بمجرد اعتناقنا للواقعية السببية بدلا من الواقعية المباشرة، فتحنا فجوة ما بين العالم اللى بندركة والعالم الحقيقي .. كيف اذن نعرف ان ادراكنا للعالم هو الصورة الحقيقة التى يوجد عليها العالم؟ .. زى ماشفنا ان فلاسفة عصر النهضة طرحوا فكرة الخواص الاولية والثانوية في طبيعة الكائنات. وتركيب و ترتيب جزيئات الكائنات مسؤول عن الخواص الثانوية التي ندركها للكائن، ازاى من الممكن إذن أن نعرف إن كان هناك اى خواص أولية متماثلة مع أفكارنا عن الكائن بالمرة؟ .. لوك اعتقد ان هذا الامر متروك للعلم لإعطائنا آراء احتمالية عن الكائنات، وفي عصره الفلاسفة الطبيعيون اعتقدوا أن ليس ضروريا معرفة ان اى شي مثل اللون الأحمر كما ندركة خاصية اولية في طبيعة الكائن، لكنهم سرعان ما وجدوا ان من الضروري معرفة ان كان الطول، الاتساع، الحركة، الحجم، وغيرها من الخواص اولية ام لا من أجل تفسير خبراتنا في الواقع.

1_a8SU5sCdFEBWZzmNPGTr3g.jpeg

الفيلسوف الأيرلندي جورج بيركلي Berkeley من أشهر اللى رفضوا فكرة الخواص الاولية والثانوية. المثير في طرح بيركلي ان بالرغم من ان نتيجة طرحة مختلفة بشكل جذري عن جون لوك، لكن أساس حجته كان قائم على مبادئ أساسية قبلها لوك، زى المعرفة والمعنى من خلال التجريبية، والفكرية. بيركلي أعترض على فكرة الواقعية السببية، واى صورة اخرى من صور الواقعية الميتافيزيقية ورفض فكرة وجود المادة بالمرة. الفكرة اللى عادة ما بيتوفق عندها الكثيرون كي يأخذوا طرح بيركلي باى نوع من الجدية. لكن من المهم إيضاح ان بيركلي لم يدعي ان ان الكائنات المادية ليس لها وجود لكن تلك الكائنات ليست مستقلة عن العقل، وليست مكونة من جزيئات مجهرية ذات خواص أولية. وجادل ان مبدأ المادية الطبيعية بلا معنى! .. وان المادية ليست رؤية اختزال العقلي الي الفيزيائي لكنها مجرد فكرة ان هناك وجود للمادة! .. المادة لها معنى محدد، وهو بالتحديد أنها تمتلك خواص أولية ممتدة في الفضاء، قادرة على الحركة، متعددة، الخ. من الممكن تلخيص جدلية بيركلي كالاتي: (1) تجاربنا هى أفكارنا وليست الكائنات المادية (الفكرية) (2) كل أفكارنا تأتى من التجارب (3) كلمة شئ مادى لايمكن ان تعبر عن اى فكرة مستقلة وبالتالي بلا معنى. جون لوك زى كثير من التجريبين من بعده جادل أن العقل عند الولادة زى ورقة بيضاء اللى بيتم الكتابة عليها لاحقا من خلال التجربة، وناقض فكرة العقلانيين بشدة اللى بتقول اننا بنولد ببعض الأفكار أو المفاهيم قبل تجربتنا الحسية للعالم. وبالتالي لوك سيتفق مع فرضي جدلية بيريكلي الاولي والثانية لكن لو كنا غير قادرين على معايشة تجربة المادة بشكل مباشر، وكل أفكارنا مشتقة من تجاربنا، اذن لا يجب ان نكون غير قادرين على تكوين أفكار عن المادة، لأنها تتعدى تجربتنا، أن كم عدد التجارب المطلوبة لتكوين اى فكرة عن المادة؟ .. صحيح كل أفكارنا تأتي من التجربة طبقا للفرضية (2) في جدلية بيركلي لكن من الممكن دمج تلك الأفكار لتكوين فكرة واحدة عن مفهوم المادة، مثلا من خلال دمج الأفكار عن الامتداد المكاني والأفكار السببية. في الحقيقة الرد ده غير كافي بالنسبة لبيركلي، لكننا هنعتبرة رد كافي مؤقتا وننتقل لنقدة 446px-John_Smibert_-_Bishop_George_Berkeley_-_Google_Art_Project.jpgللتفريق ما بين الخواص الأولية والثانوية. أولا: التفريق مابين الأولي والثانوي هو تفريق ما بين الموضوعي Objective والنسبي Subjective ولايوجد تفريق واضح ما بين الموضوعي والثانوي إذن كيف نتوقع ان يكون هناك تفريق ما بين الأولي والثانوي؟! … ثانيا، الخصائص الاولية لابد وان تكون مستقرة، ام الخواص الثانوية هي تلك الخواص النسبية ادراكيا، لكننا غير قادرين على معرفة أن الخواص الأولية مستقرة و ثابتة غير متغيرة ادراكيا، فقط مستقرة بالنسبة لمنظومتنا الادراكية. حجم الأشياء يعتمد على المقاييس اللى بنستخدمها، والحركة كما اكتشف جاليليو تعتمد نسبيا على سرعة مرجعية الخ وبالتالي بيركلي بيجادل ان الخواص الاولية نسبية هي الاخرى زى الخواص الثانوية … ثالثا، الخواص الأولية من المفترض انها خواص لما هو مادي ولكن تجربتنا للمادي دائما ما بتكون مثلا ان له لون، بيركيلي بيرفض تماما ان من الممكن تخيل كائن بدون لون مثال، وبالتالي بيجادل لاتوجد اى أرضية لفضل الألوان عن  الكائنات المادية وكذلك الشكل،الحجم، الحركة، الخ. … ويمكن الجدلية الاهم التى لم يطرحها بيريكلي هى المعرفة العلمية المتاحة حاليا عن المادة والكائنات، تقريبا كل العلماء بيتفقوا مع رؤية بيركيلي الان حول المادة وبيرفضوا ان الخواص اللى طرحها لوك تعد أولية في المادة، حتى الكتلة تعد الآن خاصية ثانوية ناتجة عن الكتلة وقت الثبات بالنسبة لإطار مرجعي معين. الخواص الوحيدة اللى بيرشحها العلم لأن تكون أولية هي الأشياء المهمة من وجهة نظر الفيزياء مثلا الدوران، شحنة اللون، الدوران الجزيئي، الخ .. بمعنى آخر خواص لا يوجد لها اى مكافئ في تجاربتنا الادراكية للشئ. وبالتالي من الصعب او حتى المستحيل القول ان الحواس الناشئة من تلك الخواص بداخلنا فعلا بتحاكيها او تمثلها لاننا غير مدركين لها. لكن من الجائز ان نجادل أن تلك الخواص تمتلكها الاشياء في استقلالية عن إدراكنا الأمر اللى هيساعد على دعم فكرة وجود الخواص الأولية. اذن  لو تخلينا على فكرة ان الخواص الاولية تشمل أفكار مثل الامتداد المكاني، الشكل، السرعة الخ وتحتوي فقط على الخواص التى ترشحها العلوم الحديثة لأن تكون أولية، بالتالي سيكون من الممكن الدفاع عن فكرة أن كائنات مثل الإلكترون، الذرة لها وجود بشكل مستقل عن العقل. وأنها خواص موضوعية وليست نسبية ذاتية لأن من الممكن قياسها بشكل دقيق بطرق قابلة للتكرار مستقلة عن من يقوم بإجراء التجربة. بالنسبة لبيركلي كل الخواص المفترض أنها أولية في المادة زى الشكل، الحجم، الحركة، الخ في الواقع ثانوية أى أن لها وجود فقط عند إدراكها .. الرؤية اللى بتعد صورة من المدرسة المثالية  idealism احد المدارس الميتافيزيقية قائمة على فكرة بسيطة في طرحها معقدة في بنيتها وهي ان كل ما لة وجود هو عقلي او روحي في طبيعيتة! وبالتالي لايتوافق مع اى صورة او طرح لمدرسة الواقعية الميتافيزيقية، سواء كانت واقعية مباشرة أو واقعية سببية. وبيركلي طور هجومة على فكرة خواص المادة الأولية ليظهر انه لايوجد اى شئ اولي غير العقل، الكائن الوحيد الممكن وجوده في استقلالية دون أن يدرك. وجادل أن الكائنات اللى بيطلق عليها انا خارجية مستقلة عن العقل هى في الواقع معتمدة على العقل mind-dependent كالاتي (1) من الممكن لنا أن ندرك كائنات مثل الأشجار، الجبال، البحار 1_xXPV3srRBsQ2_iRFL51fIA(2) نحن فقط قادرين على استقبال الأفكار أو مجموعة من الافكار المدمجة (3) الأفكار وتجمعاتها لا يمكن أن توجد غير مدركة (4) بالتالي، الأشجار، الجبال، والبحار أفكار وانطباعات او تجمعات من تلك الأفكار ولا يمكن أن توجد في استقلالية. الحجة متسقة منطقيا .. لوكنا قادرين فقط على ادراك تجمعات من الافكار، ولكننا ندرك الاشياء والكائنات يوميا في تجاربنا، اذن لابد وان تلك الاشياء والكائنات ماهي الا مجموعة من الافكار. زى اى حجة أستقرائية متسقة منطقيا مفاتيح اثباتها أو نفيها في معطياتها. زى ما شفنا لوك رفض المعطى الاول .. ان من الممكن ادراك الاشياء او الكائنات، الامر اللى اعتبرة بيريكلي طريق سريع للشك في كل شئ، لان بدون قبول ان من الممكن ادراك الكائنات والاشياء لايمكن ان نثق في اى معرفة بالمرة. الفكرة الطبيعية جدا لان بمجرد رفضنا فكرة ادراك الكائنات الطبيعية مباشرة ازاى هنكون قادرين على التأكد من وجود اى شئ خارجي بيسبب الافكار لدينا. دى الفكرة الشكوكية عن العالم الخارجي اللى ديكارت حدد معالمها بوضوح من خلال تجربة الشرير اللى بيعطية تجارب وانطباعات حسية حتى يكون في عقلة صورة وهمية عن الواقع والكائنات اللى فية (ارجع للحلقة الاولي من كلام فلسفة مخ في وعاء)  .. السؤال هو كيف يمكن أن نتأكد من حقيقة الواقع؟ .. لو كنت غير قادر على نفي إحتمالية انك الان مجرد مخ في وعاء او عميل في برنامج محاكاة .. كيف يمكنك التأكد من المعرفة التى تكتسبها عن اى شئ حولك؟ .. لو اعتنقنا المدرسة الفكرية Ideasim  أصبحنا مقيدين خلف حجاب أفكارنا (أرجع لحلقة حجاب الإدراك) .. لكن فلاسفة زى ديكارت، بيركلي، هيوم، وراسل، وكارنب حاولوا انهم يبدأوا من البيانات الحسية Sense-data كي يصلوا للمعرفة المكتسبة يوميا عن العالم.

459px-Kant_gemaelde_3

الاشكالية الواضحة في طرح بيركلي هو كيف من الممكن أن نفسر وجود اتساق ما بين أفكارنا المشتركة عن العالم. اى لماذا يتفق البشر في غالب الوقت حول خواص الكائنات في الطبيعة إن كانت الكائنات لا يمكن أن توجد في استقلالية عن عقولنا وافكارنا عنها؟ .. أو لماذا هناك اتساق زمنى في تجربتنا للأشياء؟ بمعنى فنجان القهوة اللى امامي سيبقى أمامي حتى وانت خرجت من الغرفة وعدت لها بعد قليل. في الحقيقة إجابة بيركلي كانت بسيطة لكنها غير مشبعة عقليا، لانها بصورة أخرى مجرد تأجيل للأجابة .. بيركلي اعتمد على أعتقادة في وجود الله، وجادل ان الله مدرك لوجود كل شئ طوال الوقت في عقلة الالهي، وبالتالي هذا يضمن بقاء وجود الاشياء طوال الوقت حولنا واستمراريتها في الوجود حتى وإن توقفنا عن إدراكها. على اى حال حتى وان رفضنا رد بيركلي لابد لنا من تقدير جدليته والصعوبات اللى بتضعها أمام المدرسة الواقعية. في حين أن بيركلي حاول يتجنب الشكوكية المعرفية من خلال اختزال تجارب العالم الخارجي في انطباعاتنا وافكارنا عن العالم، كان هناك طرح آخر مثالي لحل نفي الاشكالية قدمة العقل الألماني الفذ إيمانويل كانط Kant اللى اتفق مع فلاسفة الواقعية الميتافيزيقية أن هناك عالم مستقل خارجي عن عقولنا، لكنه اتفق مع المتشككين في أننا غير قادرين على تكوين معرفة عن هذا العالم. لكنة جادل ان كل معرفتنا عن هذا العالم ظاهرية نتلاقها من خلال تجاربنا واستخدم مصطلح للمرة الاولي اصبح شائع في فلسفة المعرفة من بعدة العالم الظاهري Phenomenon اللى بيناقض العالم في ذاتة او لنفسة النومينون noumenon. معظم معرفتنا والحقائق المكتسبة عن العالم الظاهري نحصل عليها من خلال الحواس، لكن كانط اعتقد ان هناك بعض المعرفة الاولية a priori لدينا عن العالم. في حين اننا قادرين فقط على معرفة مقاييس كائن له شكل مثلثي من خلال حواسنا، الا اننا نعرف ان الاشكال المثلثة مجموع زوايها لابد وان يكون 180 درجة، هذة المعرفة نحصل عليها فقط من خلال المنطق والعقل. طبقا لكانط الرياضيات، الهندسة، والميكانيكا النيوتينية كلها صور من المعرفة الاولية a priori ليست عن العالم في ذاتة noumenon لكن حول الصورة التى يجب ان تكون عليها تجاربنا لكن للأسف زى ما شفنا قبل كدة الفكرة دى رفضتها التطورات الأخيرة في نظرية النسبية وميكانيكا الكم.

الواقعية اللغوية Linguistic Realism

1280px-Solvay_conference_1927.jpg

مدرسة الوضعية المنطقية Logical Positivism جذورها في المدرسة التجريبية، خصوصا محاولة هيوم لفصل ماهو لة معنى عن ما ليس له معنى (إرجع لحلقة إشكالية المنطق والتجريبية) .. بشكل عام الوضعانيون التجريبيون جادلوا من أجل مجموعة عامة من المبادئ (1) التأكيد على التأكيد Verification وقابلية النفي Falsification و (2) الملاحظة والتجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة التجريبية (3) رفض اى فكرة غير سببية (4) رفض أى كائنات نظرية ليس لها وجود في الواقع (5)  ضد أى أفكار ميتافيزيقية بالمرة. ديفيد هيوم اعتنق الافكار الوضعية المنطقية لانه تشكك في اى وجود اى تفسيرات سببية فيما وراء ارتباط الافكار في عقلنا، او ان رفض وجود اى مادة خارجة على الظواهر الطبيعية! ..  ولاحقا عالم الفيزياء إرنست ماخ Ernst Mach جادل ان العلوم الفيزيائية يجب ان تهتم فقط بما يمكن ملاحظته ومهمة العلم هى تنظيم العلاقات بين تجاربنا. احد أهم الافكار في رؤية الوضعانيين هي “معيار المعنى التجريبي empiricist criterion of meaning” الفكرة اللى من الممكن تلخيصها ببساطة في ان علشان يكون اى شئ ذا معنى لابد وانه يكون مرتبط بصورة تجريبية ما. الفكرة اللى استخدمها الوضعانية لنقد اى أفكار علمية زائفة pseudo-scientific زى نظرية التحليل النفسي psychoanalysis، لانها استخدمت أفكار من غير الممكن إثباتها من خلال التجربة، ونقدوا ما وراء الطبيعة لانهم شافوا انها بدون اى معنى!ورفضوا مجموعة كبيرة من الافكار اطلقوا عليها المفاهيم الزائفة psuedo-concepts  زى الجوهر essence، 8197021717_fc66a1ee40.jpgالخير Good، المطلق absolute، الخ واعتبروها مفاهيم زائفة لان الجمل اللى بتحتوى على تلك المفاهيم لا تؤكد اى شئ! .. الأساسية foundationalism بتطرح فكرة أن المعتقدات نوعين، نوع أساسي مبرر بغض النظر عن اى معتقدات أخرى، ومعتقدات غير أساسية مبررة بناء على الاستنباط والاستقراء من معتقدات أخرى اساسية او غير اساسية.كثير من التجريبين بيأخذوا المعرفة الناتجة من حواسنا على انها معرفة أساسية foundational  مثلا اعتقاد ان يبدو بالنسبة لى ان هناك ضوء، اعتقاد مبرر في ذاتة اى اساسي. لكن الوضعيين حاولوا استخدام بروتوكول لغوي لتحديد المعرفة الاساسية. الجمل المستخدمة في البروتوكول من الممكن ان تشير للمحتويات ناتجة عن تجربة او ملاحظة مباشرة .. مثلا “أنا أشاهد ضوء أحمر” .. الفكرة دى عادة ما بيشار اليها في الاوساط تقرير بيانات الحواس Sense-data report. لابد وانها تكون في صيغة المتحدث الفردية first person singular في الحاضر، وتقرير لملاحظة ما. بصورة ابسط هى تقرير الفرد بتجربة او ملاحظة تحدث في الوقت الحاضر .. الجمل اصطناعية وغير قابلة للشك لانها فردية ذاتية من وجهة نظر الملاحظ وبالتالي تقرير الفرد الامين على الاقل سيعبر عن رؤيتة للواقع عند تلك اللحظة، وليس قائم على معتقدات اخرى، لان الملاحظ ببساطة يقرر حالة الواقع كما هى في تجربتة، وبالتالي ينطبق عليها معيار الحقائق الاساسية. وجادل الوضعيون ان كل الجمل التجريبية ذات المعنى اما انها جمل بروتوكولية كما سبق، او انها فرضيات وتخمينات تجريبيةEmpirical hypotheses . اللى بتربط الجمل البروتوكولية ببعضها البعض وبالتالي تفتح مساحة أمام التنبؤات. القوانين العلمية هي فرضيات وتخمينات تجريبية، وبالتالي من الممكن اختبار التنبؤات التي تطرحها من خلال التجربة والملاحظة. والجمل البروتوكولية من الممكن التأكد منها وإثباتها بقوة لان الحقائق المطروحة فيها من الممكن إثباتها بالكامل من خلال التجربة، لكنها فقط تؤكد الفرضيات التجريبية بشكل ضعيف بسبب إشكالية الاستقراء لان اثبات حالة واحدة أو مجموعة حالة لايعنى أبدا الإطلاق في التعميم (ارجع لحلقة إشكالية العلم) .. إذن في افضل الاحوال الجمل البروتوكولية تجعل الفرضيات التجريبية احتمالية وليست قطعية. السؤال حتى وإن كنا قادرين على التحقق من مجموعة من الحقائق الاساسية الناتجة من تقارير بيانات الحواس، كيف من الممكن أن نستخدمها في أن نبنى معرفتنا عن العالم؟ .. الوضعانيون اختزلوا كل صور المعرفة لمعرفة قائمة على الجمل البروتوكولية والحقائق الضرورية. وجادلوا ان الحديث عن الكائنات المدركة أو الملاحظة من الممكن اختزالها في التجارب الحقيقة أو الممكنة. الكائنات المادية هى هياكل منطقية من تجارب حسية ممكنة، الكائن المادي هو إمكانية دائمة لتجربة حسية لا أكثر ولا أقل. الرؤية اللى عادة ما بيطلق عليها الظاهرتية phenomenalism. artworks-000410881077-i0ectt-t500x500.jpgالاشكالية اللى واجهت فلاسفة الوضعية المنطقية هو ان بالرغم من رفضهم للحقائق الخارجة عن أطار التجربة الفردية المباشرة، العلم االلى اكنوا له كثير من الاحترام والتقدير نظرياتة بتعتمد بشكل أساسي على الفرضيات التجريبية والقوانين النظرية اللى بتستخدم مصطلحات زى الذرة، النواة، الشحنة، القوة النووية، وغيرها .. ازاى من الممكن ان هذة المصطلحات يكون لها معني في ضوء الوضعية المنطقية؟ .. في الحقيقة الوضعانيون كان عندهم طريقيتن في التعامل مع المصطلحات دى . الأولى انكار ان لها معنى من الاساس، زيها زى ماوراء الطبيعة، الاخلاق، اللاهوت، الخ .. والثانية هو محاولة تعقيم فكرة المعنى تجريبيا للتخلص من الأفكار الميتافيزيقية. فلاسفة الوضعية المنطقية جادلوا ان الجمل التأكيدية تحتمل الصواب والخطأ assertoric وبالتالي بالضرورة تعبر عن حقيقة ما في العالم، جملة زى القتل خطأ ليست جملة تأكيدية لانها بتعتبر عن فكرة المتحدث عن القتل، لكن جملة عل شاكلة القاهرة أكبر من الاسكندرية جملة تاكيدية لان من الممكن التأكد من صحتها تجربيبا. وبنفس الصورة فلاسفة ضد الواقعية حول تصنيف الجمل العملية اللى بتحتوى على مصطلحات نظرية على انها جمل غير تأكيدية زى الجمل اللى بتحتوى على الالكترون مثلا. الفكرة دى عادة ما بيطلق عليها الذرائعية الدلالية semantic instrumentalism  اللى مفادها ان النظريات العلمية لابد وان لايتم اخذها حرفيا مثلا للتدليل على وجود كائنات غير مُلاحظة، لانها تركيبات منطقية تستخدم كأدوات لمنهجة العلاقة ما بين الظواهر، وبالتالي الفرضيات النظرية ليست جمل تأكيدية. لكن البعض الاخر جادل ان الجمل العلمية اللى بتحتوى على مصطلحات نظرية في واقع الامر هى جملة توكيدية، لكن باختزالها لظواهر من الممكن ملاحظتها او اختبارها، اى ان تلك المصطلحات النظرية من الممكن ان يتم اعادة تعريفها من خلال مصطلحات يمكن الاشارة لها من خلال التجارب الحسية والكائنات الملاحظة. الفكرة دى عادة ما بيطلق عليها التجريبية الاختزالية Reductive empiricism  اللى بيتم الجدال فيها أن المصطلحات النظرية من الممكن تعريفها من خلال مصطلحات قابلة للملاحظة وبالتالي الجمل اللى بتحتوى عليها جمل توكيدية، اذن النظريات العلمية لايجب ان تأخذ حرفيا اى ان هناك وجود فعلي لتلك الكائنات الغير ملاحظة! .. مثلا مصطلح نظرى زى الضغط من الممكن أختزالة او تعريفة على انه القوة مقسومة على المساحة. الاشكالية 1_SQ83ceR-VlXOmdpmYrFLRw.jpegفي الطرح ده ان معظم المصطلحات العلمية من غير الممكن تعريفها بهذة الصورة. مثلا الحرارة، لابد ان نضع تعريفات لكل درجة حرارة ممكنة لان ليس من المسموح ان نستخدم فكرة درجة الحرارة لان الدرجة نفسها كائن نظري لا وجود له. لكن تاريخ العلم ملئ بنماذج نظريات تم تقديمها في مجال ما وحققت نجاح في مجالات اخرى. مثلا نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية طرحت في الاساس لتفسير ظاهرة الكهربية والمغناطيسية، وبالتالي فسرت جزء من ظاهرة الضوء، اشعة أكس، الاشعة تحت فوق الحمراء infrared، الخ .. فلاسفة الوضعية ادركوا ان بمجرد استخدام لغة عامة لوصف تجاربنا الشخصية تقارير البيانات الحسية غير قابلة للجدل، لان لابد وان نطبق المصطلحات بشكل صحيح والا ستكون الاخطاء واردة. وبسبب قابلية الخطأ في الملاحظة ده الوضعانيون تخلوا عن فكرة التحقق verification  واستبدلوها بفكرة قابلية النفي او التأكيد.. اللى أحتوى بالضرورة على قبول لغة العلم كواقع حتى وان كانت بعض اجزائها تشمل كائنات من غير الممكن ملاحظتها او التعبير عنها من خلال التجربة الذاتية! .. أذن الجمل حقيقة فقط عندما تتوافق مع الحقائق الوجودية في الواقع، المصطلحات داخل الجمل تشير الا اشياء، كائنات، ظواهر، وخواص في العالم الخارجي، وشروط صحة تلك الجمل  truth-conditions  واقعية مجردة، محايدة، غير ذاتية وتحدد صحة الجمل بناء على كينونة العالم الخارجي مستقل عن وجود البشر. وبالتالي من الضرورى الالتزام بفكرة شروط الحقيقة مستقلة عن العقل الإنساني. واذن تصبح فكرة وجود حقيقة ما لايمكن التأكد منها يبدو بدون معنى.

3GUTQMVMQAI6RMO27572U2AHCA.jpg

إذن لو وضعنا الأفكار المكتسبة من كلا من الواقعية الميتافيزيقية والواقعية اللغوية حول حقيقة المصطلحات النظرية و مزجناها مع المتطلبات المعرفية للحقيقة نصبح أمام صورة قوية من الواقعية العلمية من الممكن صياغتها كالآتي: (1) الكائنات، الأشياء والظواهر الموصوفة في سياق لغوي س لها وجود (2) وجود تلك الكائنات والظواهر مستقل عن معرفتنا الحالية وعقولنا (3) الجمل داخل السياق اللغوى س لايمكن اختزالها أو استبدالها وهي تعبيرات تأكيدية  assertoric expressions و (4) شروط الحقيقة truth conditions  للجمل اللغوية س مجردة objective وتحدد صحة او خطأ تلك الجمل بناء على كينونة الأشياء في الواقع. الشروط اللغوية دى من الممكن فهمها في ضوء النظرية التوافقية للحقيقة (5) اذن المصطلحات المستخدمة في س تشير لكائنات، اشياء، وظواهر في الواقع. لو اعتبرنا ان س هى السياق اللغوي العلمي اصبحنا اماما صورة كلاسيكية للواقعية العلمية كما طرحها الفيلسوف الاميريكي هيلاري بوتنام Hilary Putnam وغيرة من فلاسفة العلم. على سبيل المثال (1) الالكترونات لها وجود (2) مستقلة عن العقل (3) الجمل العلمية حول الإلكترونات في الواقع تصف في الواقع، كائنات دون الذرية مجهرية، لها شحنات سالبة وتدور نصف دورة حول كائن النواة ولها كتلة محددة، الخ (4) شروط حقيقة الجمل السابقة قائمة على صورة الواقع (5) اذن لابد وان نعتقد ان نظرية الالكترونات معرفة علمية مجردة تصف الواقع كما هو.

نقص الاثبات Underdetermination

particleMist.jpg

الواقعية العلمية أحد اكثر مدارس فلسفة العلم شهرة اليوم. لكنها واجهت كثير من التحديات والنقد. ومعظم فلاسفة العلم أعتقدوا ان هناك شئ ما خاطئ في طرح الواقعية العلمية في وقت ما. بداية من فلاسفة الوضعية الواقعية Logical positivism كانوا تقريبا بالاجماع ضد فكرة الواقعية العلمية. أما توماس كوهين كان غير واضح او محدد او على الاقل متسق في وجهة نظرة تجاة الواقعية العلمية، لكن الغالب انه كان ضد الواقعية العلمية. وكثير من  علماء أجتماع العلم بكل تأكيد رفضوا الفكرة تماما، وفلاسفة زى لودان  Laudan وفيربيند Feyerabend  من الصعب تحديد موقفهم من النظرية. أما كارل بوبر Popper كان من أنصار الواقعية العلمية. على أى حال في 3 فئات اساسية من الاعتراضات على الواقعية العلمية الاولي، الواقعية العلمية عادة ما واجهت نقد من قبل الصور التقليدية من المدرسة التجريبية empiricism  .. عارف ان الفكرة تبدو عجيبة بالنسبة لك .. ازاى الواقعية تتعارض مع التجريبية؟! .. بالرغم من مناطق الالتقاء بين المدرستين كثيرة الا ان التناغم الكامل ليس ممكن دائما. فلاسفة التجريبية التقليدين عادة ما بيقلقوا من العلاقة ما بين البديهة والواقعية العلمية. لو كان هناك عالم موجود بشكل مستقل عن أفكارنا وعقولنا، كيف من الممكن ان نصل لأي نوع من المعرفة عنة؟ .. التجريبين يعتقدوا ان الحواس هى الطريقة الوحيدة للوصول للمعرفة الحق. وكثير منهم يعتقد ان الادلة من خلال الحواس ليست كافية كي ندعي اننا على دراية بطبيعة الواقع الحقيقية، ويبدو من الغريب والمتناقض على الاقل بالنسبة لي اننا نقول ان العالم له وجود بشكل مستقل عن حواسنا لكننا في نفس الوقت نقول اننا لن نكون قادرين على الوصول لتلك الصورة الحقيقة للعالم ابدا. موقف فيلسوف الوضعية المنطقية من المناقشات الدائرة حول العلاقة بين العلم Descartes_mind_and_bodyوالواقع هو عدم الانحياز لاى جانب لانه ببساطة يرى ان الجدال كلة بدون معنى ومضيعة للوقت.لان طبقا للظاهرتية phenomenalism كل شئ لابد وان يكون قابل للأختزال في تجربة حسية. لو الظاهرتية فكرة صحيحة، لما بنقوم بصناعة ادعائات عن الاشياء الخارجية في العالم كل ما نتحدث عنة في الحقيقة هو أنماط تجاربنا الحسية. وحتى وان كان هذا الاختزال او ترجمة الادعائات لصورة حسية، طبيعة اللغة البشرية بتمنعنا من الانتقال من وصف تركيب العالم فيما وراء قدراتنا الحسية. اللغة والافكار لايمكن ان تحلق بعيدا، على الاقل من وجهة كثير من فلاسفة التجريبية على الاقل في القرن العشرين. في السنوات الاخيرة الجدال ما بين الواقعية والتجريبية في ادبيات فلسفة العلم عادة ما بيندرج تحت عنوان “نقص اثبات النظرية بالدليل underdetermination of theory by evidence” او اختصارا نقص الاثبات. التجريبين بيجادلوا ان دائما ما سيكون هناك دائما عدد من النظريات البديلة المتوافقة مع كل الادلة المتاحة او الادلة اللى من الممكن ان تتاح! وبالتالي لن يكون من الممكن ابدا ان نفضل نظرية على اخرى بناء على ارضية تجريبية لوصف طبيعة العالم الواقعية.

البنائية الميتافيزيقية  Metaphysical Constructivism

waysofworldmaking_exhib_paramodel_02.jpg

البنائية الميتافيزيقية هي الرؤية اللى بتجادل ان بنية العالم تصور عقلي من خلال نظريتنا العلمية. توماس كوهين Kuhn عبر عن الفكرة دى لما ادعى أن مع تغير النماذج الفكرية paradigms change، نظرتنا  للعالم تتغير ايضا. الفيلسوف الفرنسي المعاصر برونو لاتور Bruno Latour عبر عن تلك الفكرة بقولة إن العالم هو منتج قرارات وجدالات العلماء. الفيلسوف الأمريكي نيلسون جودمان Nelson Goodman مثال آخر جادل في كتابه المهم “طرق صناعة العالم Ways of Worldmaking” اللى نشرة سنة 1978 ..  ان عندما نخترع لغة علمية أو نظرية جديدة، نصنع عوالم جديدة أيضا. بالنسبة لفلاسفة البنائية الميتافيزيقية، من غير الممكن حتى إمكانية ان نظرية علمية تصف العالم كما هو مستقلة عن العقل البشرى، لأن الواقع نفسه معتمد على ما يفكر ويعتقد فيه البشر. الافكار 31k6nwPdWpL._SX312_BO1,204,203,200_.jpgدى عادة من الصعب قراءتها وتفسيرها لأنها تبدو غريبة عند تفسيرها حرفيا. ازاى من الممكن اننا نصنع عالم بمجرد الكلام عنة او صياغة نظريات حوله؟ … من الجائز كوهين، لاتور، وجود مان بيستخدموا كنية بصور ما؟  .. كوهين احيانا قدم رؤية أخرى حول هذا التساؤل، رؤية من الممكن عدها ضمن الواقعية التشكيكية  skeptical realism، ووجد صعوبة كبيرة في توضيح موقفة المتضارب في كثير من الأحيان. لكن لما سؤل جودمان بشكل مباشر عن وجهة نظرة اصر أنها رؤية غير مجازية. على اى حال فلاسفة البنائية الميتافيزيقة بيعتقدوا ان هناك شئ ما غير مريح في الواقعية العلمية، وفي نفس الوقت بيعترفوا أن من الصعب وصف بديل، لكنهم بيجادلوا اننا لابد وان نستخدم فكرة البنائية او شئ من هذا القبيل للتعبير عن علاقة نظريتنا بالواقع. بعض تلك الافكار من الممكن رؤيتها على انها صورة معدلة من رؤية كانط  Immanuel Kant اللى فرق ما بين صورة العالم في ذاتة noumenal  عن صورة العالم الظاهراتية phenomenal. وجادل بعض الفلاسفة ان لابد وان نترجم رؤية كوهين لأفكار كانط. في تحليل مايكل دافيت Michael Devitt  للجدال الدائر حول الواقعية العلمية في كتابة الرائع “الواقعية والحقيقة Realism and Truth” اللى نشرة سنة 1997 شاف ان العديد من الفلاسفة بشكل واعي او غير واعي بيتبعوا نفس النمط الكانطي في تصور العالم. طبقا لدافيت المدارس الفلسفية البنائية اللى بتجادل ضد الواقعية، قائمة على فكرة دمج الصورة الكانطية مع نوع من الافكار النسبية. وان الافراد والمجتمعات العلمية المختلفة بيصنعوا صور ظاهراتية للعالم من خلال الافكار والنظريات اللى بيطرحوها.  الفكرة النسبية دى لم تكن جزء من الطرح الاصلي لكانط، اللى شاف ان كل البشر بتطبق نفس الاطار العقلي الاساسي على الظواهر المختلفة في العالم وليس لهم اى اختيار او ارادة في الامر. يُنظر احيانا للرؤية الكانطية كوسيلة للتمسك بفكرة وجود عالم حقيقي يقيد ما نؤمن له ولكن هذا لايمنع معرفتنا او تمثيلنا للعالم! .. الاشكالية في الطرح ده انه غير مفيد لان فهم وصلنا للحقيقة الواقع امر صعب، لكن اضافة طبقة جديدة هى العالم الظاهراتي ما بينا وبين العالم الحقيق لايحقق اى شئ! .. مصطلح البنائية الاجتماعية social 768325.jpgconstructivism  عادة ما بيستخدم للتعبير عن نفس النوع من الافكار المطروحة في البنائية الميتافيزقية تقريبا .. لما بنقول أننا بنصنع، نبنى نظريتنا العلمية الطرح ده غير متعارض بالمرة مع الواقعية العلمية لاننا بالفعل بنبنى نظريتنا. الطبيعة لاتعطينا الحقيقة بشكل مباشر، لكن الواقعيين زى ما شفنا بيصروا ان الكائنات النظرية الغير قابلة للملاحظة ايضا جزء من الطبيعة. في مجال علم أجتماع العلوم sociology of science  يوجد للاسف تقليد لايتم فيه التفريق ما بين بنية الافكار وبنية الواقع. الافكار الاساسية في علم اجتماع العلوم صنعت في المقام الاول لمقاومة فكرة واحدة تم وضعها في خانة الافكار الخاطئة تماما. وهى ان الواقع بيحدد الافكار من خلال عملية سلبية بيطبع نفسة فيها في العقول. الواقع بيأثر على المعتقدات العلمية من خلال “قوة إلزامية غير وسيطة unmediated compulsory force  ” طبقا لرؤية مؤرخ العلوم الامريكي المعاصر ستيفين شابين Steven Shapin في مقال بعنوان “تاريخ العلوم وإعادة بنائه الاجتماعية History of Science and Its Sociological Reconstructions” نشرة سنة 1982 والفكرة دى تم محاولة تجنبها باى ثمن، مش بس لانها خاطئة بل لانها ضارة، لانها بتقترح ان عملية العقل البشرى عملية سلبية، غير فاعلة. وكثير من النظريات العلمية تم تصنيفها تحت تلك الرؤية مثلا الوضعية المنطقية اللى تم رؤيتها كرؤية رد فعل. الامر اللى نتج عنة ان العاملين في مجال علم اجتماع العلوم حاولوا البعد قدر المستطاع عن تلك الرؤية السلبية، وبالتالي بدأوا يأكدوا رؤي معاكسة لتلك الرؤية الامر اللى ادى لنظريات مثل البنائية.  على اى حال المعتدلين في رؤيتهم لانكار تلك الرؤية السيئة عادة ما بيواجهوا نقد شديد داخل المجال، والنتيجة بتكون استبدال خطأ واحد (رؤية ان الواقع بيطبع نفسة على العقل السلبي) برؤية أخرى خاطئة (ان الافكار او النظريات بتبني الواقع)! .. على اى حال الموضوع مازل قيد الجادل الفلسفي، العلمي والتاريخي ويتخطي حدود بحثنا .. لكن قد نعود لبحث تلك القضية مستقبلا.

المُلاءمة التجريبية  Empirical Adequacy

021919_MT_ai-soapbox_feat.jpg

الاعتراض الاخير اللى هقدمة لك على الواقعية العلمية scientific realism  أكثر اعتدالا وحذرا، وصاغة فيلسوف العلم الأمريكي-الهولندي المعاصر باس فان فراسين Bas van Fraassen في كتابة المهم “الصورة العلمية The Scientific Image” اللى نشرة سنة 1980. فكرة فراسين من الممكن تصنيفها تحت أفكار المدرسة التجريبية، لكنها ليست قائمة على النظريات اللغوية، او النفسية. بدلا من هذا فراسين نقد الواقعية العلمية بناء على أهداف العلم كما رأها. البداية من عند فكرة فلسفية مهمة وهى الذرائعية الذرائعية instrumentalism اللى بتجادل ن BAS_2011_Spainالنظريات العلمية هى أدوات بتساعدنا في التعامل مع التجارب بدلا من القول بان العالم الحقيقي لا يمكن الوصول الية. الذرائعية بتجادل اننا لابد وان لا تقلق ان كانت النظريات وصف حقيقي فعلا للعالم، او ان كانت الالكترونات لها وجود حقيقي. لو النظرية تمكنا من صناعة تنبؤات جيدة .. ماذا نريد اكثر من هذا؟ .. لو لدينا نظرية تعطينا الإجابات الصحيحة بالنسبة لما نلاحظه، أحيانا قد نجد انفسنا نتساءل ان كان هناك تطابق او ارتباط عميق ما بين تلك النظريات والواقع. لكننا لا نتوقع ابدا الاجابة على هذا السؤال، إذن ايه فائدته بالنسبة للعلم؟ .. بعض العلماء عبروا عن الفكرة الذرائعية خصوصا في الفيزياء الطبيعية.ببساطة فكرة ان لابد وان نتجاهل الاسئلة حول الواقع الحقيقي للكائنات النظرية لان هذة الاسئلة لايوجد لها فائدة علمية.. الصورة الفلسفية البراجماتية! .. فراسين لم يستخدم مصطلح الذرائعية بالتحديد للتعبير عن وجهة نظره، لكنة أطلق على تلك الرؤية “البنائية التجريبية constructive empiricism” (للاسف مصطلح البنائية تم استخدامة من قبل العديد من الفلاسفة حتى أصبح عديم المعنى .. لكن على اى حال انا بعتبر ان رؤية فراسين صورة من الذرائعية) .. على اى حال فراسين اقترح ان كل ما يجب ان نطلع إليه في النظريات العلمية هو ان تصف الجزء المرئي أو الملاحظ من العالم بدقة. النظريات اللى بتقوم بهذا مناسبة تجريبيا empirically adequate  . قد تصف تلك النظريات الأجزاء والكائنات الخفية من العالم لكن ان كان هذا الوصف دقيق ام لا امر لا يهم العلم في شئ. لان عندما تمر النظرية من العديد من الاختبارات وتصبح أكثر تأكيدا، السلوك المناسب تجاة النظرية في تلك الحالة هو القبول. ان نقبل نظرية هو (1) هو ان نعتقد ان النظرية مناسبة تجريبيا على الأقل بصورة مؤقتة (2) نستخدم المبادئ والأفكار التي تطرحها النظرية عندما نفكر ظواهر download.pngأخرى او عندما نحاول تطوير النظرية أو مد رقعتها التفسيرية. وكى تكون النظرية مناسبة تجريبيا، لابد وأن تكون قادرة على وصف كل الظواهر القابلة للملاحظة داخل هذا المجال العلمي، بما في ذلك الظواهر التي لم ندرسها أو نبحثها بعد. لكن ازاى نقدر نقرر بين رؤية فراسين وصورة الواقعية العلمية التقليدية؟ .. أولا لابد وأن نتأكد ان الرؤيتين في حالة تضاد. الواقعية العلمية بتجادل ان هدف العلم هو طرح صورة وتمثيل حقيقي وواقعي للعالم، لكن فراسين جادل ان هدف العلم هو طرح نظريات مناسبة تجريبيا. الرؤيتين يبدوا في حالة أتفاق الى الان، العلم قد يهدف لنظريات مناسبة تجريبيا لكن في نفس الوقت قد يهدف الى تمثيل التركيبات والكائنات الخفية للواقع. الاشكالية عن فراسين اللى شاف ان هدف العلم فقط هو الوصول للنظريات الملاءمة تجريبيا empirical adequacy. أكيد زى ما انت اكيد متصور دلوقتي المشكلة الاولى اللى هتقابل فراسن هو كيف يمكن التفريق مابين ماهو قابل للملاحظة وما هو غير قابل للملاحظة؟ … الواقعيين جادلوا أن هناك استمرارية بين الكائنات ولا توجد حدود تصنيفية فاصلة بين ما هو قابل للملاحظة من عدمه.  بعض الاشياء من الممكن ملاحظتها بالعين المجردة، والبعض الاخر مجهرى لايمكن ملاحظته بالعين بل من خلال ادوات مساعدة زى الجراثيم مثلا، والبعض الآخر دون الذري لا يمكن حتى ملاحظته بشكل مباشر لكن يمكن ملاحظته من خلال تأثيره على سلوك الكائنات الاخرى زى الإلكترونات مثلا. فيلسوف الواقعية يرى أن التفريق بين ما هو ملاحظ وما هو غير ملاحظ امر غير محدد او واضح، ولا يمكن استخدامة لصياغة ما يجب أن يهدف اليه العلم. وفي الحقيقة فراسين قبل فكرة ان التفريق ده غامض. وقبل فكرة ان لايوجد اى شئ غير حقيقي حول الكائنات الغير قابلة للملاحظة. وقبل ايضا فكرة اننا بنعرف الحدود بين ما يمكن ملاحظته وما لا يمكن ملاحظته من خلال العلم نفسه. لكنه مازال بيجادل أن العلم مهتم فقط بالنظريات الملاءمة تجريبيا، اى النظريات القادرة على صنع ادعاءات صحيحة حول الجزء الملاحظ من العالم. وان من غير المنطقي ابدا ان العلم يهدف الى وصف تركيب وبنية العالم خلف تلك الحدود. خلينا نغير الحدود دى مثلا على سبيل الجدل، فبدلا من قابلية الملاحظة Observability نستبدلها بقابلية الاكتشاف detectability (الشيء القابل للاكتشاف هو الشئ اللى من الممكن ملاحظته أو استنباط وجودة من خلال تأثيرة على الكائنات الأخرى الملاحظة) .. إذن لو استبدل فكرة الملاحظة بالاكتشاف في مبدأ فرانسين .. هدف العلم يصبح النظريات العلمية حول الأشياء القابلة للاكتشاف. مثلا التركيبات الكيميائية للعديد من الجزيئات المهمة زى السكر والحامض النووي ستكون قابلة للاكتشاف بالرغم من أنها غير قابلة للملاحظة. لماذا إذن هدف العلم لا يكون اعطائنا صورة دقيقة لتركيب العالم القابل للاكتشاف و القابل للملاحظة؟ لماذا لا يهدف العلم لأخبارنا عن التركيبات الداخلية المعقدة للمواد زى السكر مثلا؟! ..  من الجائز لأن معتقداتنا عن التركيبات القابلة للملاحظة ليست دائما مستقرة وواضحة زى معتقداتنا عن التركيبات الملاحظة في العالم. وبالتالي لابد وان نكون حذرين ولو قليلا عندما تخبرنا النظريات عن طبيعة التركيبات القابلة للاكتشاف في العالم.  ايه الشئ المميز في قابلية الاكتشاف؟ .. لاشئ .. من الممكن اننا نحدد فئة أوسع من الكائنات والهياكل تشمل القابل للاكتشاف وما يمكن أن يستنتج من خلال مُلاحظات غير مباشرة موثوق فيها .. لماذا يحب ان يتوقف العلم عند تلك الحدود؟ من الجائز اننا يجب ان نكون اكثر حرص في تكوين معتقداتنا … اكيد واضح بالنسبة لك اتجاه الجدال. من وجهة نظر فيلسوف الواقعية لا توجد حدود بين خواص ومكونات الطبيعة العلم غير قادر على عبورها واخبارنا عن تلك الكائنات والتركيبات. ومع ازدياد معرفتنا عن العالم من خلال العلم من المتوقع أن تزداد ثقتنا في المعرفة والمعلومات اللى نكونها عن تركيبات هذا العالم. ولايوجد هناك ما يمنع العلم من محاولة وصف جميع جوانب العالم التى نأكل في الحصول عن معرفة ووصف دقيق لطبيعتها في العالم. وقد يكون من المناسب جدا ان نفرق ما بين مناطق العلم المختلفة ومستوى الثقة في المعرفة المطروحة فيها، مثلا زى مجالات زى الفيزياء النظرية، المليئة بالالغاز والمعادلات الرياضية الغريبة جدا لغالب العقول البشرية . وقد يكون من المناسب قبول طرح فراسين على الاقل مؤقتا، لكن من الخطأ ان نعتقد ان الملاءمة التجريبية  empirical adequacy اللى طرحها فراسين هى فقط هدف العلم!

الواقع، النماذج، والحقيقة Reality, Models, and Truth

lead_720_405.jpg

هدف العلم هو صياغة صورة دقيقة أو تمثيل دقيق للواقع، ومعظم المناقشات والجدل العلمي الفلسفي الدائر حول هذا الموضوع عاملت النظريات العلمية على أنها كائنات لغوية linguistic entities، او كمجموعة من الجمل زى ما شفنا قبل كدة. بالتحديد نظرية علمية جديدة هي نظرية صحيحة .. لكن كيف من الممكن ان نحدد النظريات الصحيحة؟ .. الإلكترون له وجود لو كانت كلمة إلكترون تشير إلى كائن ما .. كيف من الممكن ان نقرر ان كانت المصطلحات العلمية تشير الى اى شئ فى الواقع؟ .. ومجموعة من الإشكاليات بتظهر حول مفاهيم الحقيقة والاشارة.  أحد الإشكاليات مرتبط بوسيلة التمثيل العلمية، العلم يطرح الفرضيات حول العالم من خلال اللغة، إما download (1).jpgمن خلال اللغة العادية او اللغة التقنية. وكثير من الفرضيات في العالم يتم التعبير عنها من خلال النماذج Models العلمية. مثلا النماذج الرياضية عبارة عن تمثيلات وتركيبات من المفترض أنها بتمثل السمات الرئيسية في  المنظومات الطبيعية. لكن عندما نفكر في كيف من الممكن ان تنجح في وصف العالم، المبادئ اللغوية للحقيقة، الخطأ، والإشارة .. تبدو وكأنها غير مهمة. اى ان النماذج اللى بتمثل الواقع علاقتها بالواقع مختلفة. نموذج جيد من المفترض ان يكون لدية علاقة تشابهة مع العالم، قد يكون نموذج مجرد لكنة مازال برتبط بالعالم بشكل ما. فيلسوف العلم الأمريكي المعاصر  فريدريك سوب Frederick Suppe  في كتابة الرائع “هيكل النظريات العلمية The Structure of Scientific Theories” اللى نشرة سنة 1977 جادل ان دور النماذج Models أصبح فكرة أساسية في العلم وفلسفة العلم في القرن العشرين. والبعض جادل ان لابد من استخدام النماذج لوضع وصف مختلف لكيف يمكن ان تعمل النظريات في العلم. لكن من الخطأ ان نظن ان كل العلوم تستخدم نفس الوسيلة لتمثيل رؤيتها عن العالم. ولابد ان لانستبدل التمثيلات اللغوية للعلم لتحليلات قائمة على النماذج. أنا مدرك ان الافكار جافة ومجردة بالنسبة لك .. خلينى اضرب لك مثال لتقريب الفكرة .. تشارلز دارون Darwin في عمله الخالد “أصل الانواع Origin of Species ” ضم مجموعة من الفرضيات حول العالم، مدعومة بمجموعة من الجدليات المفصلة، باستخدام اللغة الانجليزية العادية. لكن العلم ليس كلة كذلك، حتى الموضوع اللى تناولة دارون .. نظرية التطور يعامل الآن بشكل مختلف في العلم، المناقشات الحالية في علم الأحياء التطورية حول تأثير الانتقاء الطبيعي Natural Selection على المجموعات البيولوجية biological populations عادة ما يتم التعبير عنها في صورة نماذج رياضية معبر عنها باستخدام رموز رياضية، وعادة ما يصحبها العلماء بتعليقات باللغة الانجليزية تصف لنا مثلا الظاهرة في العالم، وكيف يصفها النموذج الرياضي. لكن من غير 9780252006340المنطقي ان نتوقع ان تمثيلات النموذج الرياضي هتكون مماثلة لتمثيلات النموذج اللغوى والا لماذا استخدمنا النموذج الرياضي في المقام الأول. على اى حال ليست كل النماذج العلمية رياضية، وبشكل عام من الممكن انك تتصور النموذج كتركيب أو هيكل وصفي يهدف لتمثيل تركيب أو هيكل آخر من خلال علاقات تشابه مجردة ما بينهم. أحيانا يكون الهدف محاولة فهم شئ غامض من خلال تمثيله بصورة اخرى مألوفة. لكن مش دائما ده بيكون السبب! .. النماذج الرياضية المجردة احيانا بتستخدم كطريقة لوضع إطار عام محدد لتمثيل علاقات الارتباط الموجودة ما بين منظومات الواقع المختلفة. النموذج الرياضي قد يعامل متغير ما كدالة في منظومة اخرى، وهذة الدالة قد تكون دالة في منظومة دالة أخرى وهكذا .. وبالطريقة دى شبكة معقدة من التركيبات التي بتعتمد على بعضها البعض من الممكن تمثيلها بوضوح، ومن خلال التعليقات اللغوية حول النموذج الرياضي والعلاقات فية تتماثل مع الواقع.  النماذج سواء رياضية او صورة اخرى تمتاز بالمرونة الامر المهم جدا بالنسبة للعمل العلمي. العلماء المختلفين قد يستخدموا نفس النموذج الذى يمثل الواقع ويصفوه بصور مختلفة! .. فرد ما من الممكن ان يستخدم النموذج كأداة تنبؤية، بإعطائه مدخلات معينة يخرج نتائج معينة دون الاهتمام بتفاصيل عمل النموذج الداخلي وكيف يرتبط بالعالم. لكن فرد أخر قد يعامل نفس النموذج كصورة مفصلة للواقع بتفاصيله وعلاقات الاتصال بين مكوناته وبعضها البعض. وهناك صور عديدة متنوعة للتعامل مع النماذج ما بين هذين النقيضين! .. مثلا فرد ثالث من الممكن أن يعامل النموذج على أنه يصف بعض سمات الواقع لكن بعضها فقط وليس كل شئ في الواقع. الفرق ما بين النماذج والنظريات المعبر عنها لغويا قد يكون مهم جدا في فهم التقدم في العلم. كثير من النظريات العلمية القديمة تم استبدالها الان، واحيانا ان نظرنا لفشل تلك النظريات نتسائل كم منها كان صحيح، واى من المصطلحات اللى استخدمتها كانت فعلا بتشير لاى شئ فى الواقع؟! .. لكن احيانا لو اعادنا صياغة النظريات القديمة في صورة نماذج، نجد ان النموذج يحتوى على بعض التكوينات والتركيبات الصحيحة، من وجهة نظر النظريات اللاحقة. مثلا في نظرية القرن التاسع عشر عن الايثرether  كان لها تركيبات جيدة بالرغم من ان فكرة الايثر نفسها ظهر لاحقا ان لا وجود لها.  على اى حال بعض الفلاسفة يعتقد ان حتى نستطيع ان نقول ان نظرية ما صحيحة هو ان نؤكد ان هناك ارتباط ما بين النظرية والعالم. الفكرة اللى معروفة بنظرية التوافقية للحقيقة The correspondence theory of truth. الفكرة الاكثر بداهة بالنسبة لغالب البشر حول مفهوم الحقيقة (إرجع لحلقة إشكالية الحقيقة). لو الفكرة دى صحيحة، اذن من الممكن ان نستخدم مفهوم الحقيقة عند تحليل اللغة العلمية وعلاقتها بالواقع. والبعض الاخر جادل ان مفهوم الحقيقة غير مناسب للتطبيق بهذا الشكل. الصواب True كلمة 220px-Origin_of_Species_title_page.jpgتستخدم للإشارة الاتفاق او الاختلاف مع الاخرين. وليس لو وصف علاقات حقيقية بين اللغة والعالم. اى بدلا من الاصرار على ان المصطلحات العلمية النظرية تشير الي وجود ما وبالتالي حقيقة النظرية العلمية تعتمد على الوجود المادى لهذا الكائن، الحقيقة داخلية منطوية على العادات، التقاليد، والاتفاقات الضمنية داخل الجماعة العلمية. مثلا أحنا بنستخدم مصطح زى كش ملك في الشطرنج بشكل أعتبارى بناء على الاتفقاق السائد لهذا الاستخدام، او لما نقول ان السودان تقع على الحدود الجنوبية لمصر، لا توجد في الواقع حدود لكنها فكرة ضمنية متفق عليها. في الواقع بعض الفلاسفة بيجادلوا ان بعض ان ماكنش كل الحقائق من هذا النوع، وبالتالي قابلة للتطبيق في كافة مجالات الحياة، اذن بقبول تلك الصورة من الممكن ان نجادل ان الحقائق لاصحة لها خارج اطار ما اتفق علية البشر! ..  على اى حال فكرة ان النماذج هى تمثيلات حقيقية ودقيقة للواقع ليست بدون اعتراض او نقد. البعض جادل ان النماذج سواء كانت لغوية، رمزية، رياضية، او غيرها ستكون خاطئة دائما. ده الموقف المتطرف اللى اتخذة فلاسفة مابعد الحداثة postmodernists الفكرة اللى هنعود لمناقشتها بالتفصيل مستقبلا في حلقات سلسلة مابعد الحداثة  Postmodernism.

BBFSTWY.jpg

معرفتنا بالعالم تجريبية في الاساس، لكن لو تلك المعرفة نتاج وسيط ما بينا وبين العالم وهو الافكار، إذن كيف نستطيع ان نجزم ان تلك المعرفة حقيقية ومستقرة، الفكرة دى أدركها ديفيد هيوم مبكرا، وجادل ان بالرغم من ان لا يوجد أمامنا اختيار غير التظاهر بان هناك عالم خارجي إلا أن هذا الاعتقاد غير قائم على اى مبرر عقلاني. وشفنا ازاى بيركلي حاول حل الإشكالية دى بإنكار وجود أى أشياء في الواقع بجانب الأفكار. كل شء ما هو إلا أفكار و انطباعات ولا وجود له مستقل عن وجودنا! .. وبعض الفلاسفة اليوم بيدعي ان تلك الرؤية منسابة جدا للتفكير في الكائنات الغير مرئية اللى بيدعي العلم وجودها زى الإلكترونات وغيرها.. الفيلسوف الفرنسي أوجست كوميت Auguste Comte جادل أن المجتمعات بتمر بثلاث مراحل أساسية لتكوين المعرفة مرحلة لاهوتية theological، ميتافيزيقية  metaphysica، وعلمية scientific. في المرحلة اللاهوتية الناس بتلجأ لتفسير الظواهر زى البرق، الرعد، والفيضان، الأمراض، وغيرها من خلال اللجوء لفكرة موجود أعلى لامتناهي او الله، أو الارواح، أو السحر. أما في المرحلة الميتافيزيقية يلجأوا لتفسير الظواهر من خلال قوى غير مدركة أو قابلة للملاحظة، زى الجزيئات، واخيرا المرحلة العلمية يصل لها المجتمع عندما يتخلي عن اللجوء لأشياء أخرى لتفسير الظواهر وطبيعة الكائنات. بصورة أخرى هدف العلم ببساطة هو التنبؤ بالظواهر كما هي. و الواقعية العلمية مدرسة فلسفية قائمة على ثلاث التزامات فلسفية أساسية، التزام ميتافيزيقي حول وجود عالم خارجي مستقل عن العقل البشرى من كائنات قابلة وغير قابلة للمُلاحظة! .. التزام لغوي للتفسير الحرفي للنظريات العلمية والنظرية التوافقية للحقيقة .. واخيرا التزام معرفي بأن أفضل نظريتنا العلمية الحالية هى تقريب للحقيقة وترصد بنجاح لوجود الكائنات الغير قابلة للمُلاحظة في الواقع.

p10479310_v_v8_an.jpg

القصة اللى بدأنا بيها مقتبسة بتصرف عن قصة فيلم الخيال العلمي الامريكي الفرنسي المشترك لوسي Lucy اللى قامت ببطولتة سكارلوت جوهانسين، نورمان فريمان، وعمر واكد سنة 2014. من خلال قصة الفيلم حاولت ارسم لك صورة خيالية فيها أمكن لأنسان ان يدرك طبيعة الواقع كما هي ويرى مكوناتة المجهرية الغير قابلة للملاحظة، صورة خيالية فيها الواقعية العلمية هى حقيقة الواقع، الكائنات النظرية المجهرية الغير قابلة للملاحظة او الادرك لها وجود حولنا، في بعد أخر للواقع بعيد المنال عن قدراتنا البشرية، لكنه مازال الحقيقة الخفية عن حواسنا اللى بيساعدنا العلم في كشف الغطاء عنها مع كل نظرية وأكتشاف علمي جديد.

ودلوقتى .. فكر في النظريات العلمية اللى درستها في طفولتك و كائنتها العجيبة؟! .. ذرات، إلكترونات، موجات، خلايا، وفيروسات! … ياترى هل فعلا هناك وجود حقيقي لهذة الكائنات في الواقع؟ .. وازاى نتأكد من وجودها إن كانت غير قابلة للمُلاحظة أو الادراك؟ .. هل العالم هو الصورة الظاهرية المدركة؟ .. أم أن هناك صورة أخرى خفية بعيدة المنال عن قدراتنا الادراكية؟ .. ياترى ماهي مهمة وهدف العلم؟ .. وهل هناك وجود لواقع مستقل عن إدراكنا العقلي؟ .. أم ان الوجود مجرد نسيج عقلي بشرى؟  … فكر تاني!

Download MP3:

في الحلقة الجاية .. هنكمل رحلة بحثنا في اعماق فلسفة العلم .. وعجائب الواقع والوجود بين العلم وماوراء الطبيعة! .. عن قوانين نظرية التفسير .. السببية … التوحيدية … قوانين الطبيعة … والاستدلال بأفضل تفسير .. هنتفلسف المرة الجاية

من دلوقتي للحلقة الجاية .. عيش الحياة بفلسفة

 

زود معلوماتك:

Peter Godfrey-Smith – Theory and Reality

https://goo.gl/GeKj3K 

Alex Rosenberg – Philosophy of Science: A Contemporary Introduction

https://goo.gl/RRfoqg 

James Ladyman – Understanding Philosophy of Science

https://goo.gl/DfrzG4 

George Couvalis – The Philosophy of Science: Science and Objectivity

https://goo.gl/c2eosa 

Carl G. Hempel – Philosophy of Natural Science

https://goo.gl/Dc53as 

Alan F. Chalmers – What Is This Thing Called Science

https://goo.gl/5khso5 

The Blackwell Companion to the Philosophy of Science

https://goo.gl/BwQf5o 

الواقعية العلمية Scientific Realism

https://stanford.io/2RKYOkC

http://bit.ly/2Pxv1uB

الواقعية Realism

http://bit.ly/2RIUxhz

ضد الواقعية Anti-Realism

http://bit.ly/2RNTtcb

الواقعية النقدية Critical realism

http://bit.ly/2RThoHv

الذرائعية Instrumentalism

http://bit.ly/2RJxHXa

البُنائية الاجتماعية Social constructionism

http://bit.ly/2RJ1Shb

جون لوك John Locke

http://bit.ly/2RJlAJt

المادية Materialism

http://bit.ly/2RKmPYQ

إسحاق نيوتن Isaac Newton

http://bit.ly/2RJ21Bf

واقعية البديهة Naïve Realism

http://bit.ly/2RJmzt9

باس فان فراسين Bas van Fraassen

http://bit.ly/2RKZaHY

مايكل ديفيت Michael Devitt

http://bit.ly/2RThLSp

ميكانيكا الكم quantum mechanics

http://bit.ly/2RGkJJy

نقد الواقعية الميتافيزيقية Challenges Metaphysical Realism

https://stanford.io/2RM3XIZ

المثالية Idealism

http://bit.ly/2RJVt5g

الواقعية الفلسفية Philosophical realism

http://bit.ly/2RKBZxg

الوضعية المنطقية Logical Positivism

http://bit.ly/2RNUEZ9

الأساسية foundationalism

https://stanford.io/2RMEbVd

تقرير بيانات الحواس Sense-data report

https://stanford.io/2RMDNGf

الظاهرتية phenomenalism

http://bit.ly/2RNVghp

الذرائعية الدلالية semantic instrumentalism

http://bit.ly/2RJxHXa

نقص الاثبات Underdetermination

http://bit.ly/2KPemTE

نيلسون جودمان Nelson Goodman

http://bit.ly/2KNdwqI

البنائية الاجتماعية social constructivism 

http://bit.ly/2KWk9Hp

البنائية التجريبية constructive empiricism

http://bit.ly/2KR0f0i

النماذج العلمية Scientific modelling

http://bit.ly/2KPnszP

مابعد الحداثة  Postmodernism

http://bit.ly/2KO7Zjx

لوسي Lucy

http://bit.ly/2KPqxjj

https://youtu.be/2tI7w1ffWrs

Music Credit

===========

Naseer Shamma – Happened at All: Amiriyaa

https://goo.gl/r0ijGP

Eric Serra – Lucy Soundtrack

http://bit.ly/2KSItd7

Brandon Fiechter – Fairy Realm

https://goo.gl/t7zXPZ

Derek Fiechter – Dance of the Shadows

https://goo.gl/hec9Ah

Brandon Fiechter – Waltz of the Fairies

https://goo.gl/1Bexxp

Derek & Brandon Fiechter – Dark Mystery

https://goo.gl/fejt6i

Sad Piano – Victim

http://bit.ly/2RLBCmm

Kevin MacLeod – Pooka

https://goo.gl/lslojY

للتواصل ومتابعة باقى الحلقات تابعونا على:

https://www.facebook.com/KalamFalsfa

https://kalamfalsfa.wordpress.com

https://plus.google.com/u/0/+KalamFalsfa

https://twitter.com/kalamfalsfa

https://archive.org/details/@kalamfalsfa

Leave a comment